أكد الدستور المغربي الأخير لسنة 2011 – في تصديره – على تنوع روافد الهوية الوطنية للمغرب، وإلى جانب ذلك اعترفت الوثيقة الدستورية – باعتبارها أسمى قانون في البلاد – بالتنوع الإثني الذي يميز المغرب، هذا التنوع الذي لعب دورا هاما في التأسيس للثقافة المغربية على مر العصور. كما أن الموقع الذي يضطلع به المغرب في حوض المتوسط جعله محجا لهجرات عديدة ساهمت بشكل أو بآخر في إغناء وإثراء الثقافة المغربية من خلال عملية التأثير والتأثر التي لازمت البشرية منذ الأزل، وهذا ما أكسب ثقافتنا قوة ومناعة ضد أي اختراق، أي أنها كانت تتعامل مع كل ثقافة اتصلت بها بمنطق الاحتواء لتبقى بعيدة عن كل اختراق قد يمتد إليها.
إن الثقافة – باعتبارها مفهوما واسعا يشمل عادات وتقاليد كل مجموعة بشرية وفكرها ومعتقداتها – لا تتطور إلا إذا توفرت لها الظروف الموضوعية لذلك وقام كل المتدخلين بأدوارهم كاملة، ولا يجب أن يسقط من بالنا شيء غاية في الأهمية هو أن الثقافة إذا لم تتطور وتتجدد تعرضت للركود وأصيبت بالجمود.
إذا حاولنا تتبع بعض محطات تطور الثقافة المغربية سوف نجد أنها تأرجحت بين مستويات عدة: الأخذ والرد، التأثير والتأثر، الإنتاج والاستهلاك …، ولا ريب أن الثقافة المغربية مرت بهذا المسلسل التاريخي بحيث انتقلت من العطاء والإنتاج إلى مجرد الاستهلاك والتبعية، وقد لعب عصر الصناعة ( منذ منتصف القرن 18 م ) دورا مفصليا في إحداث تحولات جوهرية كانت لصالح أوربا، وقد ساهم هذا العصر – بمبادئه الجديدة – في تغيير ثقافة العالم بأسره إما عن طريق انتقال الأفكار بواسطة الهجرات المتبادلة، أو عن طريق الاستعمار. والمغرب نفسه عانى من الشيء نفسه، فبعد أن أحكمت فرنسا وإسبانيا سيطرتهما على المغرب وأخضعاه عسكريا، بدأت عملية تشجيع الهجرة والاستيطان التي ستقلب الأمور رأسا على عقب، كيف لا وفرنسا ،على وجه الخصوص، دولة تحمل مبادئ جديدة، مبادئ الصناعة والجري وراء الربح والاستغلال، لذلك فقد نجم عن الاستعمار تفكيك بنية المجتمع المغربي ومعه الثقافة المغربية التي تعرضت لضربة موجهة مزقت أوصالها، كما رافق ذلك تغيّر على مستوى أنماط العيش والتفكير واللباس …، ولا ريب أن هذه الأمور كلها تشكل جزءا لا يتجزأ من ثقافة كل مجموعة بشرية.
لنقل إن فترة الاستعمار أحدثت صدمة لدى المغاربة، وأوجدت تصدعا خطيرا داخل بنية الثقافة المغربية، فكانت النتيجة – والحالة هاته – تعرض الكثير من مظاهر الثقافة المغربية للاندثار والإهمال، وفي المقابل تهيأت الظروف المناسبة لانتشار ثقافة الآخر ( المستعمر ) مدعومة بالمستجدات التقنية وبالمفاهيم الجديدة التي أنتجها عصر الصناعة، وهذا ما جعلها مقبولة لدى شرائح واسعة من المغاربة ومحاطة بهالة من التقديس من قبلهم، رغم أن الاستعمار كان مرفوضا جملة وتفصيلا.
عقب الاستقلال مباشرة وجد المغرب نفسه – بعد 44 سنة من الاستعمار – تائها على المستوى الثقافي، فلا هو قادر على التخلص من رواسب الثقافة الفرنسية، ولا هو قادر على صيانة ما تبقى من مظاهر ثقافته صيانة حقيقية، فالاستعمار أفرز لنا مغاربة يتحدثون بالفرنسية في الخطابات الرسمية وغيرها، بل لقد اقتحمت هذه اللغة أسوار الدارجة المغربية نفسها وأصبح من العادي دمج اللغة العربية باللغة الفرنسية لدى النخبة المثقفة كما لدى العامة من المغاربة، ونسجل أيضا ظهور مفكرين ومؤرخين وأدباء مغاربة يكتبون بالفرنسية ( العروي، الصفريوي، الشرايبي، اللعبي، الطاهر بنجلون… ) وأذعيت – تبعا لذلك – برامج بالفرنسية سواء على شاشات التلفاز الرسمي أو على أمواج المذياع …، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن 44 سنة من الاستعمار كانت كافية ليفرض الآخر ( المستعمر) لغته وثقافته ونموذجه بالأوساط المغربية.
لا يختلف اثنان على أن واقع الثقافة بالمغرب واقع مر يعاني من أعطاب عدة في مقدمتها ضعف الإنتاج والإبداع وخاصة الأدبي والعلمي، يضاف إلى ذلك غياب استراتيجية واضحة المعالم لتطوير التراث الثقافي الوطني بمختلف تلاوينه رغم المجهودات المبذولة في هذا الصدد من خلال إصدار الميثاق الوطني للمحافظة على التراث الوطني الثقافي، وهذا ما جعلنا اليوم نعيش كبوة بل أزمة حقيقية على المستوى الثقافي امتدت أركانها لتشل هذا المجال الحيوي الذي لا يستقيم الحديث عن التقدم في غيابه. أما آن الوقت لنطرح بكل هدوء وموضوعية وبعيدا عن التعصب السؤالين التاليين: من يتحمل مسؤولية تردي الأوضاع الثقافية بالمغرب؟ وإذا عكسنا السؤال أصبح حريا بنا التساؤل عمن يتحمل مسؤولية نفض الغبار عن الوضع الثقافي ببلادنا ؟.
إن الإجابة عن السؤالين أعلاه يتطلب استحضار السياق الدولي المتسم بسيطرة الغرب ثقافيا ( أوربا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان …) والذي تمكن عبر طرق متعددة من تسويق ثقافته سيما من خلال الإعلام وتقنيات التواصل الحديثة، كما يجب استحضار المناخ المحلي الوطني الذي يتميز بالهشاشة على مستوى الإنتاج والإبداع الثقافي، لذلك وجب الإشارة إلى أن أول من يتحمل مسؤولية التردي الثقافي بالمغرب هو المثقف المغربي الذي ركن إلى الخمول قانعا يالوقوف على الهامش ملتزما بالحياد في كثير من قضايا الثقافة ما جعل المغرب يعيش حالة استلاب ثقافي ، كما أن المسؤولية أيضا تقع على عاتق وزارة الثقافة التي يجب أن تلعب أدوارها كاملة في وضع مشروع ثقافي عنوانه التجديد والربط بين الأصالة ومتطلبات المعاصرة، والمسؤولية نفسها تتقاسمها وزارة التربية الوطنية مع باقي الأطراف في تشجيع عملية القراءة وتوجيه البرامج التربوية نحو القيام بعمل جليل وسام يتجلى في تحقيق ثورة حقيقية في المجال الفكري والثقافي، دون أن ننسى دور الشباب والمراكز الثقافية التي يجب أن تلعب أدوارها المنوطة بها دعما لقضايا التجديد الثقافي من خلال أنشطة تركز على قيم الإبداع الفني والمسرحي والأدبي والعلمي …
في الأخير تبقى الثقافة مكتسبا إنسانيا وذخرا حضاريا لا تستمر إلا بإيلائها العناية الكافية، وتجنيد كل الطاقات والإمكانيات المتاحة لتجديدها، لنجعل الثقافة مشروعا ورهانا وطنيا بأبعاد تنموية واقتصادية وسياسية، فأوربا إنما وصلت لما هي عليه الآن من خلال حركة التجديد الثقافي والفكري التي أشعلت شموع العلم وانتصرت للعقل البشري. وقد سبق وأن تحدثنا عن عصر الصناعة وما أنتجه من مفاهيم جديدة، وها نحن اليوم نعيش عصر التكنولوجيا والمعلوميات الذي هو في حقيقة الأمر امتداد لعصر الصناعة، والذي زاد من تعميق الهوة بينا وبين الغرب وجعلنا مدمنين أكثر من أي وقت مضى على استهلاك ثقافته. فإلى متى نظل على هاته الحال ؟
الكلاني مونصف
باحث في الدراسات التاريخية
جامعة شعيب الدكالي – الجديدة –
اترك تعليقا