كل الضفاف مستقرة . كل الهضاب و السهول و الوديان مستقرة، هادئة كالحمام حين يبسط أجنحته في انسجام و اتساق. كل الغابات، إلا “الأمازون”، مستقرة. كل المعابد و المساجد و الوسائد، كل شيء مستقر، إلا الضفة الأخرى.
و لا نعلم و لا ندري كيف و لماذا كل هذه الفوضى، هذا الهذيان اللامعقول و هذه الأرض الحمراء غير مستقرة.
حتى الجو…كلما أذن له الرحمان استقر و اتخذ له ملجئا بين الصفوف، إلا في الضفة الأخرى. إننا حائرون و حائرون حتى الجنون: لما كل السفن ترسي في جميع الضفاف، في قناة “السويس” و “قناة أمستردام” و “مضيق جبل طارق”… باستثناء الضفة الأخرى.
لما، حين يجود القمر بسخاء و عطاء على الأرض بنور جذاب، خلاب ، لا يصل شعاعه إلى الضفة الأخرى.
كيف؟ كيف يعقل؟ أهي منعدمة؟ أ أطلال هي؟ أهي خيال؟ أم خيار؟ أم حصار؟ و لما كل هذه الفوضى؟ و لما كل هذا الهذيان؟
إني كبرت بأكسجين” الأمازون”، برحيق عسل “الأطلس”، بحليب أمي “الأمازيغية” الأصيلة و دهاء رجل لم أقو على تصنيفه بعد. إني جزء لا يتجزأ من “جزر المالديف”، من “البانغلاديش”، و من شمال “الهند” و جنوب “أستراليا”. إني أحيا بحب الغريب و الضعيف و المستضعف في الشرق و الغرب وغرب “مصر” و شمال “روسيا” و جنوب” باكستان”.
في “العراق”، لي أرشيف و ذكرى رجل عفيف وحروف معلم أبي الشغوف، و امرأة شيعية أرهقتني بالرسائل و الرسائل أصبحت في غرفتي كالرفوف.
في الضفة الأخرى لي وطن و هجرت وطني. هناك كبرت، هناك كانت أول محاولاتي للنجاة. في الواقع، في الضفة الأخرى، ترعرعت بين أحضان شجر ” الكلبتوس” و” العرعار” و” البلوط” و عسل في غار شربته طازجا ،عليلا.
كل الأسماء أصبحت عديمة المعنى، و دون جدوى، إذا ما نطقت في الضفة الأخرى. في نفس المكان، أحرقت تذكرتي و لم تعد لي تذكرة و لا ذكرى. في نفس المكان، حيث أتلف البخور معظم العطور و عطور الضفة الأخرى يداهمني حين يحسب عطر “الكولونيا” أنه يطغى.
و لما كل هذه الفوضى؟ و لما كل هذا الهذيان؟
أهي حروب أديان؟ أهي مشكل هوية أم كيان؟ كل الإجابات خجولة لا تقوى على البيان. و كل شيء بين و كل شيء واضح. حتى المشكل يبتغي لنفسه حلا و المعادلات و المتراجحات و عمليات حساب السرعة و الحركة يطمحن أن يلبسن ثوب العدم، فالوجود أرهقهن، أتعبتهن الحياة و دمرتهن فكرة الممات. و الآهات ونجوم و أقمار السماوات تتهيأ للرحيل عن الضفة الأخرى ولن يبق شيء للذكرى.
في الضفة الأخرى تركت “زهرة الأوركيد” تذبل ببطء و كأنها في “صحراء سيناء”، تموت أمام أعين الفراعنة. دفنت على أرضها أحزاني و أحزاني لا زالت تراودني. عار و ليس من البشر من غطاني… في الضفة الأخرى.
بقلم : كريم الحدادي
كاتب، باحث بسلك الماستر المتخصص في اللغة الفرنسية
مولاي بوعزة،إقليم خنيفرة
اترك تعليقا