لقد أضحى نداءُ البحْر عاليًا اليوم وهو يَسحبني إليه..
في عيونِ الكائنات الضبَابية التي حولي .. أنا شابٌّ مسحورٌ..مفتونٌ به.. أما في عَين نفسي فأنا مخبولٌ.. مثقلٌ كشُوال مهترئ لم يعد يقوى على حمل ثِقله..
تُوغر نفسي في التقدم..
لا سبيل للتراجع! لقد كسرتُ قشرة البيضة.. وخرجت السلحفاة المَائية الصغيرة.. تُزيح الرمال بأطرافها الأربعة بإصرار.. تمضي نحو فرصتها الوحيدة للنجاة.. تتوارى في المياه الزرقاء..تتفادى مخالب النوارس..!
صوتُ الأمواج يضربني مجددًا..فترتجف فرائصي هلعًا..
لم تعد قدماي تُحس بجمال الإستقرار..أشعر بالدوار.. فَأستسلم لذلك التّخبط..
ماذا الآن؟ أهيَ روحُ البحر التي تراقصني..؟
فقاعاتٌ بيضاء تشاركني تلك الرقصة ..أمدُّ يدي نحوها..لكنَها تتلاشى..
أطفُو مجددا خارجَ الزمن..فألمحُ أن لا شئ تغير حقيقة..أُحرك أطرافي المتشنجة..لكنها تبقى ساكنة لا تستجيب..هي تُفضل أن تراقصَ البحر في عَتمة أعماقه.. أشعرُ أن صوتي مبحوح.. وأن عيونِي حمراء تسيل ملوحةً..
أغوصُ من جديد..وأَلتحمُ مع المياه المالحة.. ثُمَّ أرى أن الفقاعات البيضاء بدأت تتجمع لتشهد هذه المرة الرقصةَ الأخيرة..فأبدأ بِعَدِّهَا..واحد ..إثنان..ثلاثة..
فكرة غبية تلك..لكنها مجدية..!
هي كإحصاءٍ ساذجٍ لتلك الخراف القافزة في المروج.. قبل الإذعانِ لسلطانِ النوم..آه من النوم..! موتٌ صغيرٌ هو..أمَّا هذا الذي أنا فيه الآن فهو موتٌ مُحقق..موتٌ كبير وسطَ بحرٍ عَميق..!
إني أغوصُ أكثر..روحُ البحر تُهدهدني..
رأيْتُني بغتةً هناكَ في القاع..أقفُ بكلِّ خيبات سنوات عُمري الثلاثون..
حبّةُ قمحٍ مسحوقة أنا بين شقي الرحى في ذلك العمل الذي يفترسني..فشل..!
قلبي مشقوقٌ أنا.. كسرته سهام.. وتركتْ ذلك الشق عاريا ..
عجبًا! عشقٌ خلَّف شق..
لا تستطيعُ أي امرأة من نساء الأرض ترميمه.. فشل..!
وإني واللّه أرى الآن المياه المالحة تتسرب من خلاله إلى كل خليةٍ في جسدي..
فشل..ملل.. مهشمٌ أنا ..
تعب ..غضب..
فشل..فشل..
آه من ذاكرتي الغارقة.. وروحي المبللة..لقد تعبت من حمل الشُوال المهترئ..
لقد تعبتُ من عالم روحه مُرّة.. مزرية ..قميئة..سأتركُ الشُوال يجرني إلى القاع..
يدُ البحر لا تتركني أبدًا.. تصرُّ على أن تراقصني..
لا أيُّها البحر ليس هذا وقتُ الرّقص..! ألم تكتفي بما لديك من مخلوقات عجيبة تسكنك..دعني أَستريح..!
لطمني على وَجهي.. وأبْعدنِي..فسمعتُ صدى صوت البحر يطن بداخلي.. وهو يدفعنِي إلى الشاطئ..
لقدْ كانتْ رقصة وجودِية رائعَة يا فَتى.. وأنا اليوم رُوحِي حُلوة..! ولذا ستعيشُ يا هذَا.. فاغتنم هذِه الولادَة..!
فتحتُ عيني.. قرصُ الشّمس المُتوهج لا يزالُ شاهدًا.. يلفحني..لا أعلم لماذا شعرتُ بهِ وكأنه يبتسمُ لي..
لملمتُ نفسي.. ومضيت.. لقد تشبعت شراييني بطعم البحر.. ولمسات البحر.. وبحكمةِ البحر..
ثم سكتَ كلّ صَخبي بعدها.. و خمدَ غضبي..و رُمّم شق قلبي..واختفى فشلي..
لقد أفْضَى إليَّ البحرُ بما لم يكشفهُ لي أحد سواه..وها أنا ذا وبعدَ مُرور أزيد عن ثلاثة أعوام كاملة..أقف في ذات المكانِ الذي شهد على صرختي الثانية في هذا الوجود..بعد خروجي الثاني للحياة.. أخط بأصابع قدمي على رماله الدافئة دوائر صغيرة ..لفقاعات بيضاء لا تزال عالقة في الذاكرة..وأبتسم لطفلتي التي تلهو معي حافية القدمين و كأنها راقصة باليه..
عجبًا يا بحرُ! كم يا تُرى من رقصةٍ تلزمنَا حتى نجد ذلك الإستقرار المنشود على أديم هذه الحياة؟
لمياء عبد السلام من مواليد مدينة طنجة
خريجة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، إجازة دراسات إسلامية.
كاتبة قاصة في مبادرة نساء مبدعات بجميع إصداراتها عن دار الشهد بمصر
اترك تعليقا