الجزء الأول
ولا يزال المَوْت يتهادى..
دُنْيا؛ وبها كُلّ الحضور مَحْكومٌ عليهم بالغياب.. ولكُلّ حَىّ ـ أذنب أم لم يُذْنب ـ مَوْعد وتنفيذ حُكْم الإعْدام.. وأدنى وأسْمى موجود مصيره عَدَم..
وبلا دوام، ودون خلود؛ تتسعُ هىّ وتنوّع عوالمها الأرضيّة؛ بَحيْث يُعْجِزُك الوصول إلى آخر حَدّ بمَدى حقيقتها..
وتضيقُ بك؛ حتى تُضِنّ عليْك بحُريّة وَصْلِ كُنه عيٍش؛ وسرّ يقين وجود إلا..
إلا مَنْ رحمه الله..!
زخّات مَوْت تسّاقطُ..
تدنو وتدنو مِنْ أعزّ ماتملك.. تنطلقُ رصاصة.. ولا تصيب صدرك المتصدّى لها غصب عنك.. حُبٌّ فطرى من إبْداعِ عظيم مَنّ وعزيز فعل مَنْ خلقك..
إنّما تتجاوزك.. وتستهدفُ مَنْ يستوطن روحك؛ حُبّاً؛ لا يخرج أبَداً..
ما أيْسر أنْ تموت.. ولكن أكبر مِنْ المَوْتِ؛ أنْ ترى وَلدك ينشدهُ المَوْت، ولا.. لا يموت..
يلتحفهُ المَرَضُ، ولا.. لا يموت..
وبدلاً منه؛ تتمنّى أنْ ترحل.. و.. ولايستجب المَوْعد لمُناجاة ربّ.. و..
وتجهلُ الغَيْب.. وتغفلُ عَنْ إتيان الغَدّ.. وأنْت تحملقُ فى رحابة سقف الحَيْاة.. وتتوه فى حِكْمة سِيْاط ألمٍ؛ تتوالى على حِسّ روحك.. وبضعفُ لين قلبك؛ المُبْتَلى به منذ أُطلقت للدنيا تحمل نبتة؛ وتثمر الإنكسار والعجز وقلّة الحيلة عَنْ تحمّل أوْجاعِ مَنْ تُحِبّ..
عَنْ عمد؛ أشياء وأشياء نولد بها؛ وليس لنا إلا تقبلها والقناعة والرضى بها..
ولا تملك إلا الدّعاء.. والصّدقات.. والبحث عَنْ دعوات العبد الصّالح.. والصّراع بَيْن ترهّل ووهن بصيرة؛ والحاجة لبشرٍ.. وللأسف تعثر على من لا جَدْوى مِنْ فعلهم.. ولا قيمة أصْلا لوجودهم؛ سوى زيْادة نسل.. وإلتهام زاد مَنْ يستحقّ..
وتصرخُ بوجه غَيب معفّر بآثار زحفِ فُراق مَوْت:
ـ إنّه انا.. هلا أصبت؛ وبفداه رضيت!
ليس يأساً.. ولا قلّة إيمان.. إنّما تأمّل وتفكّرُ..
أبداً؛ مَنْ يتقبل المَوْت بسهولة؛ إنّما هو يقين بقدريّة كَوْنِ.. وغَيْث فيوضات مِنْ عطايْا الخالق القدير..
وإحدى غموض نواميس الدّنيا؛ رحيل وإباء خلود..
وما مِنْ يوم يُشْرِق علينا؛ وإلا وهناك مَوْعد والموت..!
،،،،
ويتمنّى الولد الصغير أن يرتاح بفرشةِ قَبْر..
يشتاقُ لدفء حُضْن بلا بشر.. الماسُ ومناجاة رحمة مِن الربّ.. وغدا يكرهُ الألم ومصاب القدر الموجعة.. ونهش جراح الحوادث والصّدمات المجهولة.. والضربات الخفيّة؛ دون معصيّة.. وبلا مُبرّر، و.. ولا تمهله حتى يلتقطُ أنفاسه..
وكُلّ العيون التى تراه.. تتعاطف معه؛ ولا تملك له مِنْ عظيم فِعْل؛ إلا الدّعوة له بعاجل حُسْن خاتمة.. ورصاصة عفو ورزق رَحْمة لمُهر يافع؛ وليس لخيل الحكومة العجوز!
وعلى تراتيل حزينة.. ونغمات أمس؛ مثل اليوم والغدّ؛ الذى يأتى والحلم بأنّه قد يختلف.. وبوح تغريد فرخ مكسور الجناحين.. يتمنّى الطيْران.. وهو يزحفُ على الأرض؛ يلتمسُ المَوْت..
ولكنه يأبى..!
ويشدّه مِنْ تناثر عظام صدره الذائبة برقائق لحم مهترئة.. والمُلتصق وشفافية آلام حسّه.. وبه يَصْرخُ:
ـ أُرقص..
غصب عنّك أرقص..!
وكُلّ أحلام الجسد المسجى فى دُجَى الصدمات؛ أنْ يرحل..؟
،،،،
وكُلّ عام يطرقُ البلاء بابه.. رغم أنّ كُل عَسّه.. رواحه ومجيئه من الجامعة إلى البيت.. ومن الجيم الريْاضى إلى كافتيريا صغيرة يجلس ومجموعة أصدقاء جامعته..
فجأة.. تلقى به سيارة متواضعة جديدة بعد شهر من اقتناءها.. وترميه ووالدته من أقصى اليمين إلى قمّة تبّة؛ فى الجانب الآخر من الطريق المقابل.. أمام نفس توكيل شراء السيارة.. من سُخْريّة القدر!
ويدخلُ مرحلة العلاج.. ويُشْفى بحمد الله، وتصاب الأم بالعمود الفقرى والوجه وورم بالمخ؛ ليتمدّد جسدها بصالة البيت الصغير لسنوات ثلاثة؛ تحلم بالشفاء..
وكُلّ مساء؛ يمرّ عليها ولدها.. فيتذكّر.. ويرميه الشعور بالذنب بين أنياب جُدْران حجرته المظلمة..
ويتساءل الشاب النحيف:
ـ لِمَ لَمْ أكُن أنا..!
شهرٌ واحد فقط؛ منذ أنْ ركب السيّارة الجديدة.. حتى يتم ترحيله بسيارة الإسعاف.. وباشتهاء غراب مجهول يتلذّذ بأثوابه الممزّقة المختلطة بالدّم.. وتراتيل جنائزية تطرق بأظافرها على عتبة روحه.. يسمعُ نعيق مَوْت:
ـ أُرْقص..
غَصْب عنّك.. أُرْقص!
،،،،
وبعد ستّة أشهر؛ يَظُنّ الشّاب الهزيل أنّ مِنْ حَقّه أنْ يحلم.. وربّما يحُب وللأرض يعُد يتنفّسُ.. وأنْ يضحك ويفرحُ؛ مثل غَيْره مِنْ هُم فى عُمْره..
وإذ بقدميه تتوقّف..!
وبِشَراهة.. ودون مقدّمات؛ يغرزُ الــ (M.S) مرض التصلّب العصبى المتناثر أنيابه المسمومة بنخاعه الشّوكى.. وللمُخّ يزحفُ.. ومتى؟
أيضاً خلال فترة امتحاناته..!
وقُبيل أن تنزلُ بك؛ وكأن البلاءات تتفقُ وتتضفّرُ ومَوْعد مُحَدّد؛ لتكون أشدّ قسوة.. وأعنف تأثيراً.. وأوْقَع أثراً..
ويدخلُ غيمات نفق علاج جَسدى ونفسى.. و
وهو لديه ( فوبيا) من المستشفيات.. والأدوية.. والحقن بتقارير طبية موثقة!
كُلنا عابروا سبيل.. يطول أو يقصر.. ولكن الدّرب الذى كتب عليه؛ لن يتوقف به المسير؛ إلا بإذن مَوْت.. ويتمّ تصليح السيارة بثمن أخرى جديدة.. وينصحُ طبيبه المعالج؛ بأن يمارس؛ مايُسَمى بحياته بشكل عادى.. فالمرض لم يكتشفُ له علاج بعد.. وليس أمامك غير الدّعاء والصّدقات.. والشّافى هو الله..
وبعد قسوة أقدار ومشاعر إلهية ليس لنا بها إلا أمانة حملها.. نشهدُ الواقعٌ الحياتىّ يلهث حول سلخ الجدىّ اليافع.. ولايرأف بأن تراه أمام عينيك؛ يروحُ ويجيء مذبوحاً..
ومع ركوب السيّارة من جديد.. ساقه تتوقّف؛ وتتجمّد حركته.. فتسقط على البنزين؛ بدلاً من الفرامل.. وبأقصى سرعة؛ تصطدمُ السيارة بعمود حديدى من الخلف، ووجه يتهشّم وزجاج السيّارة الأمامى يتناثر.. وبتجاويف وثنايا جلد وجه؛ يسكن غيْبٌ آمر فى استرخاء البراء القانع والمستسلم لقضاء الربّ؛ والذى لابُد نافذ..
ويجرّ جسده النحيل.. يدخلُ حجرته الضيّقة؛ والمطبقة على شهيقه وزفيره.. والتى لا يفتح شباكها؛ إلا عند خروجه للجامعة.. ويأبى أىّ ثوبٍ؛ إلا ذات الألوان السّوداء..
ويشيرُ علينا شيخٌ طيّب بأن نغيّر (العتبة).. فنأخذ شقّة جديدة.. ولا يتنازل إلا بطلاء جُدْران حُجْرَتها باللون الأسود..
ولم يسمح لنا الغدّ المُتَرصّد؛ أن يكتب لنا الانتقال إليْها..!
ومثل أمْوَاج مِلح يمّ نَوّات شتاء؛ تتلاطم الابتلاءات.. وتلتهم الصحّة والمال والسعىّ لمواجهة الضربات الخفيّة مِنْ هذا الدّاء؛ المعروف بمرض خراب البيوت.. وأيضاً إصلاح وتعويضات مصابى حوادث السيارة..
وخلف جُدْران وحدة وكآبة صَمْتٍ؛ يسير بلامبالاة..
وكّلما يطرقُ جامع القمامة باب البيْت الموبوء؛ مع الرائحة الكريهة.. حلمُ أهل الدّار بزيارة المَوْت..
وقد يتسلّل وسَواد وِحْدَته.. وعليه يَنْعمُ بالسّكون المُرافق؛ بديلا عن رعشة التهيّب، والفزع من تكشّف قناع حقيقة الأيّام.. التى لا تتغيّر.. وصقيع الأسى.. ويأس طول حُزْن..
وبَيْن جُدْرانِ الغرفة المنقبضة؛ يصمّ أذنيه.. ومَوْتٌ ينسى أنّه بلا أجنحة.. وأنّ حركة قدميه عاجزة؛ وهو يَرُجّه:
ـ أُرْقُص
أُرْقص.. غَصْب عَنّك أُرقص!
،،،،
ومع عصف وكثافة سَواد رمال مُتتاليّة؛ يَحِلّ العام الثالث..
وكما تسجن الأقدار جسد وقلب وروح وعقل الشّاب الصغير؛ وتعود تتمنّع وتأبى ألا تقسو عليه أكثر.. وتصلح السيارة.. ويعود ماتبقى من الولد للحَيْاة..
مَنْ يَدْرى..؟
وعسى توردُ الأزهار وهى تذبلُ.. فمن خلقها على كًلّ شئ قادرٌ ويقدر..
ويقتربُ موعد تخرّجه.. وكالعادة تأبى إنفراج الشفتيْن بَسْم نبوءات تحلّ بروحه!
موتوسيكل يقتربُ منه.. ويدّ أخرى؛ فى ثانية تمتدّ.. ويسرقان موبايْله.. ويهربان.. يطاردهما؛ وليس بذهنه؛ إلا مسوّدات ومعلومات ورسومات خاصّة بمشروع الدّراسة؛ الموجود على الموبايل.. فيصطدم بموتوسيكل آخر..
فى ذهول لا أحد يعرف ماذا يحدث..؟
إنه يصرخُ فى راكبى المتوسيكل.. المصابين على الأرض:
ـ حراميّة.. حراميّة!
والمفاجأة..
إن من اصطدم بهما، ليس من اختطفا منه الموبايل..!
موتوسيكل آخر.. وشخصان آخران.. واصابات جسيمة.. ومحاولة للفتك به.. والذهاب به لقسم الشرطة.. ودمار السيارة وموتوسيكل متواضع.. وعمل أشعّات.. وهرولة من مستشفى لأخرى؛ ومحاولة علاج المصابين.. والدّعاء بجبر الخاطر وشفاء الجميع.. وتهديد أهل المصابين بسجن شاب وضياع مستقبله.. وتحوّله إلى مجرم.. وكما فى مرضه؛ لاذنب له؛ يترك لهم جسده.. ولايعرف ماذا يحدث..
لقد بدأ وأهل بيته يتركون مصيرهم يخرج من الحَيْاة..!
أيّة أقدار خفيّة تلك..؟
موتوسيكل لصوص يهرب.. يدخل مكانه ويظهر أمامه موتوسيكل آخر.. نفس الشكل.. وعليه أيضاً راكبين؛ فى نفس التوقيت..
ويصطدمُ الولد بهما.. وليس بشئ آخر.. لِم كُلّ هذا التماثل والتطابق.. وأيضاً فى نفس توقيت امتحانات آخر العام مثل العامين السابقين.. ويضيعُ مجهود عام من مشروع تخرّجه..
ولمزيد من توأمة الابتلاءات كالعادة؛ فى نفس توقيت موعد امتحانات آخر العام؛ ولم يبق على تخرّجه إلا أسبوع..
ويدخلُ الجميع المستشفيات..!
فى رحلة العلاج.. وقبول التعويضات المالية.. وشراء موتوسيكل للمصابين.. ورمىّ السيارة المتحطمة.. وعمل تفاوض وتصالح.. وقهرحُبّ.. وإذلال أبّ وأمّ؛ من أجل مستقبل الشاب المريض.. ولا أحد يعذر..
يبكى ويصرخُ الشاب النحيف الهزيل.. يستدعى المايسترو الماهر.. وكأنه يجذبه من عنقه:
ـ لا أريد أنْ أرقص.. أنت حقّ.. خذنى إليْك.. الله أرحم ويغفرُ..
ويستنجد بأهل المصابين:
ـ ليس أنا.. أيّها الموت ألا..
ألا ليْت..؟
ياليت كُنْتُ مُت واستريّحت..!
ويعودُ الولد المبعوثُ ومصير بلاء بأوحد مسير.. يرتدى أثوابه الغامقة.. وينهارُ فى صمتٍ؛ كم آلفه.. ولم يَعُد يخافُ إلا من ضياع وقت دون طائل.. أو فوات آوان حين يلبّى نداء الخلود.. ويصعد إلى دوام ربّ.. دائماً بعباده يجود..
وفى هذه المرّة الثالثة أيضاً؛ يأبى الموت له مغادرة.. أو رحيل..
ويتركه وبقايا جسده.. المُلقى على فراشه.. وحلم أمّ أنْ يريحه ربّه.. ودَعْوات شقيقته أنْ يسكن الله ألمه.. والتماس ألا يطول إنهيار روحه بعفو وحُسْن ورضا لقاء ربّه.. وبحمد الربّ؛ ندعو يأجُرنا الله فى مصابنا.. ولاحول ولا قوّة إلا بالله..
موتٌ يشدّه.. ينفضه.. ويَنْسى أنّ الشاب الموعود بالعذاب؛ لم يَعُد يَمْلُك إلا نزف روح.. ويصرخُ فيه:
ـ لم يحِن المَوْعِد بعد.. الوقتُ غير مناسب..
قُم.. إنهض..
أُرقص..
غصب عنّك.. أُرقص!
،،،،،
إنّها رقصاتُ مَوْتٍ لَمْ تَكْتمِل..!
وعلى أغنيّة مَوْتٍ؛ أقدارٌ تُجْبِرُك على أنْ ترافق ولدك؛ وهو يُلقى به غصباً بمضمار الحيْاة.. يتمايْل وجعاً.. ويتطاوح جَرْحاً.. وينزعُ تمزقّات لَحْمه نزفاً نزفا..
وأحسبه عبدٌ صالح.. لم يضر إلا تحمّل رحمة فقده.. وفراق حُبّه.. وربّما يريحه إصفرار الموت الحاضر بَيْن عَيْنيه يوم ولادته.. وهو المقدّر له الذبول قبيل أن يورد.. أو يبوح بينع أريج..
ومِنْ ترنيمات السكون والتمنّى الطويل لحَيْوات مِنْ جنان الرحمن بعد الموت؛ لَمْ تعُد
لَم تعُد تتقن غَيْر الحُزْنِ حَرْفاً حرفا..!
وروحك مُلْتَحفةٌ بسَوَاد وَجْعٍ تعلم.. وتَحْيا كما يشاءُ لك الإله.. وتَعْجزُ عَنْ إدْرَكِ ماهيّة الحياة.. فلم تتساءل عَنْ مَعْنى الموت.. وأنت
أنت وأنا على يقين أنّ الله يعلم.. و
و(يعلم ما لاتعلمون)
…..
الجزء الأول
اترك تعليقا