إن الشعر محطة تفكير كبير إثر الارتجاج الذي أصابه في عصرنا، سواء على مستوى المصطلح، الشكل، الموضوع، اللغة والإيقاع وغيرها من الأمور التي تفرض على دارس حقل الشعر الحديث الوقوف عند حوافها بغية تعميق النظر وتسديده، وإن كنا في هذا الدرس سنكشف شيئاً عن تجربة من تجارب الكتابة النسائية الشابة، التي تطل على القارئ المغربي والعربي بمجموعة من الكتابات التي خضعت لعنوان عريض ” ليال شرقية ” حملت اسم الشاعرة هدى أعراب ضمن منشورات جامعة المبدعين المغاربة بالدار البيضاء لسنة 2018، فمن خلالها يمكن أن نسرد بعض الأمور الواجب علينا تغييرها من حيث الفكرة والمفهوم، ليس من أجل التغيير، وإنما تمييزا لها عن الأجناس الأدبية الأخرى.
نكاد نقول إن كاتب قصيدة النثر اليوم، يدعي مفهوم التمرد من أجل تبرير عدم قدرته على التقريض بين القديم والجديد ومسايرة مبادئ الشعر اللغوية والأخلاقية المتعارف عليها في الأدب الرسمي، وقد فات أن طرحنا هذا السؤال، في أي جنس نكتب ؟ ليقول القائل في جنس الشعر الحديث، بسرعة وبديهة، لكن هل يمكننا أن نسلم بأن كتاب وكاتبات النثيرات ضمن الحداثة ؟
إن الحداثة بالتعبير الادونيسي ليس شيئاً يتعلق بتغيير نظام الشعر من وزن وقافية أو نظام السرد، وإنما هو تغيير كبير يؤسس لبداية حضارة جديدة، إن الحداثة نمط جديد للحياة وتمرد عن التقليد كوعي ﻻ كممارسة، وهو الأمر الذي قد يغيب عن الكثير من كتاب اليوم ونقاده ودور النشر … إذ الكثير يوحي بأننا نمارس التغيير ونسعى إليه من أجل التغيير فقط، وليس من أجل إرساء رسالة واعية بضرورة هذا التحول في الفكر والمجتمع ككل، ومنه نجد في ديوان الشاعرة هدى أعراب، بعضا من الخلط المفهوماتي التي نساءل عليه دور النشر باعتبارها مسؤولية عن المناص النثري، حيث أن القارئ الذي يحمل بين يديه هذا الكتاب، يقرأ في التجنيس ( شعر )، غير أن قصيدة النثر ما تزال تستدعي البحث والتفكير كونها شعرا أم نثرا.
يطرح الناقد الدكتور عبد الإله الصائغ الأستاذ بجامعات مصر سؤالاً مهما وواضحا، هل يمكن أن نجمع بين الشعر والنثر ؟ كما هل يمكن أن نجمع بين الذكر والأنثى؟
فهو يعتقد بأن مصطلح قصيدة نثر غير صالح بتاتاً، وﻻ يصلح أن تقول نثر شعري أو شعر منثور أو نثر مشعور … لأن الشعر شعر والنثر نثر وﻻ ينبغي الخلط بينهما، وهو ما نؤكده بضرورة البحث عن المصطلح الذي يميز جنسا أدبيا عمن سواه، وعليه فإنا نذهب إلى ما ذهب إليه حسين الواد عندما أطلق على قصيدة النثر مصطلح ( النثر الفني المركب )، ومعناه أنه نثر يختلف عن النثر ويقترب من الشعر في تركيبه، وبهذا نكون اقتربنا على الأقل من تحديد نوع الجنس الأدبي من وجهة نظرنا، والذي ما يزال الكثير من النقاد محطة تضارب حوله، إنها مشكلة أدبية و نقدية من إشكالات هذا الواقع المعيش، ونحن عندما نقول المشكلة من جدر ش/ك/ل ، والشكل يؤتى قصد البيان والوضوح.
إن الكتاب قصد الدرس الآن ” ليال شرقية ” حسب منظور أصحاب التراث النقدي فهو ضمن الجنس الأدبي المسمى بالنثر الفني المركب، تحمل واجهته لوحة تشكيلية للفنان محمد سعود يغلب عليها اللون الرمادي وما يظهر لنا في الوسط كأنه جسد أو اثنين يجتمعان، وقد جاد قلم الكاتبة ب 27 نثيرة منها – أنثى ﻻ تنكسر – انتظرتك طويلا – عاشق زئبقي -سيمفونية عشق – ليال شرقية … موزعة على 80 صفحة توزيعا منظما شكلا ومضمونا.
إن القارئ لهدى أعراب يجد نفسه محاطا بموضوعات عدة، ولكن أبرزها كان موضوعا رومانتيكيا، عادت به إلى الذات والطبيعة والصبابة والوجد والتغني بمضامين الوجدان دون خضوع لطابوهات النظرة القديمة، ومن جهة أخرى نجده موضوعا للغربة والضياع واشتياق الذات إلى ذاتها والمناجاة من اكتواءات الغربة في الوجدان نفسه والغربة في الحب …
ونحن نعلم أن اثر الاتجاه الذاتي الذي تجاوزه العرب منذ نكبة 1948 بعد التشبع بالفكر الغربي، أحدث ما أحدث في المجتمعات وشكل نقطة لبداية الخروج الجديد، إن بداية القرن العشرين وما رافقها من منطلقات فكرية جديدة أدى إلى انبثاق هذه الحركة التي جددت في الموضوع الشعري كرد فعل على النمط الكلاسيكي عند القدامى، وإننا نعلم منذ سنة النكبة إلى النكسة عام 1967 اتخذ الموضوع الشعري منحاً آخر، حمل على عاتقه التعبير عن وضع سوسيولوجي وسيكولوجي مغاير تماما لمعاني الوجدان، منها موضوع الغربة، في المدينة والحب والكون والزمان … فكيف نفسر ما نجده في ” ليال شرقية ” من هذا التمازج بين الموضوعات حسب كل حقبة زمنية وكل تيار أدبي يختلف عن سابقه.
نرى من وجهة النظر الاجتماعية، ايبوليت تن مثلا، يسلم بأن الشاعر ثمرة العصر الذي يعيش فيه، فهل يكون ديوان الشاعرة هدى أعراب معبرا عن شريحة واسعة ما فتئت تقمس في بحر الهو الذي ﻻ يمكن للبشرية تجاوزه ؟ والواقع أن هذا المزج في الموضوعات هو نوع من التمرد، لكنه تمرد للعودة إلى شيء قد يكون فات الأبصار، ﻻ لنهضة أخرى تروج لفكر جديد.
وقد نقول من وجهة النفسانية، عز الدين إسماعيل مثلا، أنه تضارب وجداني أو هروب من آفات العصر نحو مكنونات الحب والعشق والذات والجمال .. أو قد يكون تناقضا وجدانيا embuvalance أو فرارا للتطهير من انفعالات ومكبوتات تخيم على العقل العربي وتطوقه وتكبح رغباته.
قد تتعدد الآراء في تأويل هذا الارتداد الموضوعاتي، ولكن القول فيه هو صراع بين عقل عربي تحرر، وعقل عربي أفلته وأظلمته المآرب السياسية والاقتصادية والفكرية .فنجدها تقول في ‘ انتظرتك طويلا ‘ ص 16
متى أنام
متى يعرف جسدي المبلل بالآلام
طلعة السلام ؟
ونجدها تقول أيضا في مقطع من نفس القصيدة يعبر بكل جرأة عن هذا الاغتراب المخيف، تقول :
يقتلع موتي البطيء
ويعلن للحياة
عودة الروح إلى جسد غاب في الخيال
ويأتي مقطع مائز يوحي بشكل جلي ويعبر عن هذه الغربة الوجدانية المكتومة في قصيدة ” قلب مصلوب ” تقول ص 11
تنبثق من قلبي المصلوب
على خشب من دخان
مكتوم الآهات
مكبل الأحلام
سارحا في شرود ملغوم …
إن هذا ما يبين الاحتراق الذي يعيش به الشاعر في أرضه وعصره، ويبين أن الشاعرة هدى لم تقو على الانفلات تماما من وقائع الدهر، وهو ما جعلها تتموقع بين الغابر والحاضر، ثارة نجدها هاربة من المأساة تناشد الحب والجمال، وثارة نرمقها قابعة في ديستوبيا الفكر المعاصر ووقائعه، وهذا الارتداد كان على مستوى التوظيف أيضا لمعاني التيار الحديث من رمز وأسطورة، تقول تقول في نفس القصيدة ص 12
وعلى الغصون تنام الفراشات
ليستيقظ من الرماد
ذاك القلب المصلوب .
قلب الكاتبة المعاصرة هنا قلب عنقاء، يتولد من جديد، وكأن النار التي تحرقه تعيد خلقه، وكأن النار التي تميته تحييه من جديد، إنه اغتراب في الحياة جمعاء واكتواء بآفاتها.
غير أننا نجدها في كثير من المقاطع عائدة إلى التغني بمضامين الوجدان والذات والطبيعة، في محاولة منها لتلميم شتات الغربة المتوحشة والرجوع إلى ينابيع الروح والموسيقى والاستيتيقا … تقول في ” سيمفونية عشق ” ص 38
ابتسم الليل على شرفة الضباب
والروح اشتاقت لغيمة ألف عام
تمر مسرعة على الشباك
تنتقل بين النجمات
على إيقاع السكسفون تراقصت
وتحت ظلال الزيزفون نامت …
وتمشي جل الكتابات في ليال شرقية متراوحة بين العودة إلى أرض الواقع والهروب منها إلى مضامين وجدانية صرفة، وهو ما يفسر اضطراب ثقيل يشهده العقل الإبداعي الذي يمثل انعكاسا لمجتمعه وبيئته وعصره.
ولا يخرج هذا الارتجاج والاضطراب في الموضوع عن الاضطراب في الإيقاع،لطالما تساءل النقاد حول ما الدافع للتخلي عن الوزن الشعري في النثر الفني المركب، وإن الذي جعل البحث قائما حول إيجاد مصطلح يليق بهذا النوع الأدبي لهو التفريط في الوزن وتركه والتمرد عليه، إن هذا السؤال يبقى أيضا علامة كبرى في حقل النثر الفني المركب (قصيدة النثر)، وإن كنا جادين في محاولة منا لفهم هذا الحاصل، إلا أننا ما زلنا غير موقنين من دوافع هذا التخلي عن الإيقاع والوزن الشعري أو كسره كسورا مميتة، لكن الراجح، سنجد أنفسنا بين تأويلين :
أولهما أن الكاتب لا يستطيع ضبط العروض وليست له دراية بقواعد الأوزان الخليلية وبحور الشعر العربي، ما يدفعه لكتابة خواطر يحملها أمانة لا تطيقها تحت دريعة النثر الفني المركب أو ما يعرف بقصيدة النثر، بمعنى أن التخلي عن الوزن في القصيدة راجع إلى قصور الثقافية الشعرية عند الكاتب نفسه مما دفع بالشعراء ليختبئوا وراء حجاب مصطلح التمرد.
وثانيهما أن هذا التغيير الحاصل على مستوى الإيقاع إنما هو تغيير واع، وتعبير عن نفسية الشاعر الذي يريد التحرر من كل القيود التي تلطم قلمه وتطوقه وتكبل الحرف الصارخ، فهذا التغيير يكون عن وعي تام بضرورة التغيير، إن كسر الوزن يعني كسر الطابوهات المجتمعية، يعني كسر حاجز الصمت، كسر الاستعباد والخروج لانشاد الحرية الحقة، ولكن هذا الأمر يستدعي منا أن نبحث له عن مرجع اجتماعي ، اقتصادي أو سياسي … إنا نقبل أن يكتب أنسي الحاج بدون وزن وقد تدرج من قبل على الوزن، وكذلك أحمد سعيد وغيرهما من الشعراء المعاصرين، لا سيما أنهم كانوا على اطلاع بأحداث العصر من النكبة إلى الربيع العربي إلى النكسة الثالثة سنة 2018 بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أن القدس عاصمة لإسرائيل بدل أن تكون عاصمة الفلسطينيين، وقد يكون انكسار الوزن من قبل تمهيدا لما آلت إليه أحوال العالم العربي.
وإذا نظرنا في الكتابات التي وردت في ليال شرقية لهدى أعراب نجدها مكسورة الوزن كلها بدون استثناء .. تقول في ص3 من قصيدة أنثى لا تنكسر
أرقصي تدللي
/0//0 //0//0
وعلى أحزانك تمردي
///0 /0/0// //0//0
حرري شعرك من ربطته
/0//0 /0/0 /0 /0///0
وتقول في ص 17 من أنقاض حلم …
للحلم معنى آخر يزحف من بعيد
/0/0/ /0/0 /0// /0// /0 //0/0
يغير مجرى التاريخ
//0// /0/0 0/0/0/0
يلعن القواميس والنواميس
/0// 0//0/0/ / 0//0/0/0
ويسير الإيقاع على هذا النحو بين تفعيلات مشكلة ومتنوعة تختلف عن التفعيلات القديمة، مما يؤيد الاضطراب الحاصل في هذا النوع الأدبي الجديد الذي بدأ يتخذ لنفسه مكانا واسعا جدا في الوسط العربي ويفرض مكانته.
وتجدر الإشارة إلى أن المجموعة التي أصدرتها الكاتبة الشابة تبقى مميزة وسط مشهد شعري رديء لا يرقى لتطلعات التطور والتغير المنشود، إذ الواجب على كاتب (قصيدة النثر) أن يكون على علم بأن لا شيء يخلو من مبادئ وقواعد، ولا يعني التخلي عن الوزن الكتابة بالحرية المطلقة، إنها فوضى استحسنتها القراءات العاشقة ومدح المتشاعرين.
كريم أيوب – خنيفرة
اترك تعليقا