حين تعرفت بك تعرفت على الحياة، لا تستغرب من كلامي فأنا حقا كنت جثة تمشي ،بثثت فيّ حياة جديدة ،حياة يصعب عليها الاستمرار دونك فأنت أكسيرها …لكن ماذا بعد كل هذااا …تركتني ورحلت .
كانت حكايتنا بالنسبة لك منتهية قبل بدايتها فقد ألفتها وأحسنت صياغتها ،وكنت أنا فيها البطلة البلهاء .
هي قصتي مع آلامها وأحزانها لكني تعلمت منها أن هزيمتنا إن حدثت تكون بفعل الأقرب إلينا ،لأن الغرباء لا يعرفون نقاط ضعفنا فقط الاقربون من يفعلون .
حملت ربى أكياس الحلوى وذهبت إلى الحلواني كعادتها لتبيعها ،هكذا تكسب قوتها هي ووالدتها فبعد وفاة أبيها لم يتبق لهما شيء غير المنزل الذي تسكنانه ،حتى أقربائهما أداروا ظهورهم لهما في أشد أيامهما بؤسا ،فقررت ربى ترك دراستها والعمل من أجل إعالة أمها .
كانت أيام ربى روتينية إلى حد ممل جدا تستيقظ فجرا تصلي صلاتها وتسرع الى المطبخ لطهي الحلوى وفي الصباح تأخذها إلى الحلواني ليبيعها .
تعودت ربى على روتينها اليومي، لم يتخلل حياتها سوى بعض المشاكل العائلية من أجل الميراث وهو الأمر الذي كان يأثر على مرض والدتها ،إلى أن جاء ذلك اليوم الذي غير حياتها ،فما كانت تحيكه لها الأيام لم يكن بالحسبان أبدا .
ذهبت ربى إلى الحلواني كعادتها لتبيعه الحلوى التي تعدها فوجدت شخصا آخر غير الذي ألفته ،شاب طويل قوي البنية حنطية البشرة ذو شعر أسود منسدل فوق جبينه يكاد يلامس عيناه الحادتان ،تأملته هنيهة ثم ..
ربى :مرحبا ..هل عمي مراد هنا لقد أحضرت طلبية الحلوى التي أوصاني عليها .
جواد :مرحبا بك عمي مراد سافر خارج البلاد إلى أجل غير محدود واستأمنني على محله إلى حين رجوعه ،أنت الفتاة المدعوة ربى حتما ،لقد حدثني صاحب المحل عنك وعن حلوتك، تفضلي ضعيها هنا.
وضعت ربى صينيه الحلوى فوق العارضة التي تتوسط المحل وغادرت.
بقيت طوال الليل تستذكر ذلك الشاب الذي غزى عقلها دون سابق إنذار، لقد كان شابا في غاية الوسامة وكأنه فارس من عصور ماضية هكذا كانت تتحدث مع نفسها، و في لحظات انتفضت من فراشها و استغربت من حالتها هذه ثم استلقت من جديد و وضعت الوسادة فوق رأسها لعلها تخمد ثوران كل تلك الأفكار والأحاسيس في ذاكرتها منذ أن رأته .
كل يوم تذهب ربى الى الحلواني ،وفي كل يوم يردد على مسامعها كليمات يرق لها القلب أما هي فلم تعره اهتماما في الأيام الأولى لكنها لانت بعدما غمرها احساس بالحب على حين غفلة، فأصبحت ربى تأخذ الحلوى وتبقى مع جواد في المحل تتبادل معه أطراف الحديث حتى جاء اليوم الذي طلب فيه رقم هاتفها فأعطته إياه دونما تردد لأنها بدأت تسقط في شباك حبه الوهمي ،كانت تقص عليه أحداث يومها وهو يستمع لها دون أي ملل وهكذا مر عامان ونصف على تعرفها به فقد أصبح يعرف الآن سيرورة حياتها كلها، أما هي فلا تعرف عنه سوى اسمه وحالته الاجتماعية المزرية فقد اخبرها أنه شاب فقير يعمل من أجل اعالة اسرته التي تعيش في القرية .
دخلت ربى المنزل واتجهت إلى المطبخ لتقبل أمها لكن وجدتها جالسة في غرفتها على غير عادتها ،قبلت جبينها وتمددت في فراشها واضعة رأسها في حضن امها وقالت :ما بك يا أمي إن نظراتك إليّ مختلفة اليوم .
يا ابنتي لقد جاء عمك اليوم وجائني بخبر أظن أنه سيسعدك، وما تريه في عيني هو مزيج من الحزن والسعادة لا أدر أيهما اختار
– ربى :لماذا يا أماه.
– لقد اخبرني عمك أن هنالك شخص تقدم لخطبتك ،وهو شاب ميسور الحال من عائلة شريفة ،لا أظن أن هنالك ما نعيبه فيه .
ربى: لا أريد الزواج وتركك يا أمي وأنت تعلمين .
نهظت أم ربى من مكانها في غضب وذهبت اتجاه النافذة تتأمل قطرات المطر المنسكبة من السماء وقالت: هل تعلمين يا ربى أن السماء تبكي لتغيث الأرض بمائها ،إنها لتضحية كبيرة أليس كذلك، وهل تعلمين أيضا أن الشمس تحرق نفسنها لتضيئنا بنورها؟
هكذا تفعلين أنت يا ربى فمنذ موت والدك وأنت على هذه الحال ،وإنه ليؤلمني أن أراك تضيعين شبابك في سبيل إعالتي أحلم أن أراك تهنئين بحياة أفضل ،وأيضا ماذا سأقول لعمك ما هي حجتي وحجتك ألا ترين أن المجتمع لا يرحم ،ألا تعرفين أن لعنة تاء التأنيث تتبعنا ونحن امرأتان وحيدتان لا أنيس لنا وأنا أرى أن مصلحتك وخلاصك تكمن في زواجك.
ساد سكوت رهيب من ربى ثم واطلقت العنان لعبراتها التي شقت طريقها نحو وجنتيها دونما توقف ،اتجهت أمها نحوها بعينان مغرورقتان بالدموع ،احتضنتها بكل قوة وراحت تحنحن عليها وتربت على ظهرها كطفل صغير وقالت: إني أرى في عينيك شرارة حب !؟ من هو يا ربى اخبريني ،فرفضك لهذا العريس له مبررات حتما .
مسحت ربى عينيها وراحت تروي لأمها قصة حبها.
اخبرتها أمها بعد سماعها للقصة بأن تدعوه لخطبتها إن كان حبه حقيقيا فالاجدر بالحب أن يختم بالزواج ،لكن ربى ترددت في ذلك لأنها تعرف الحالة المادية لجواد ،ثم ارتأت بأن الحل الوحيد لمشكلتها هي اخباره بما حدث .
دخلت ربى سريرها وراحت تسبح في أحلام اليقظة حتى قاطعها رنين الهاتف ،ردت على المكالمة إنه جواد
– مرحبا كيف حالك ؟
– بخير الحمد لله وأنت كيف كان يومك ؟
– لم يكن جيدا ،لقد بكيت كثيرا اليوم حتى تورمت عيناي .
– لماذا يا حبيبتي ،عيناك لم تخلقا للبكاء ،وقلبك لم يخلق للحزن ،فقط السعادة تليق بك.
– بلى…فقد كتب عليّ الأسى والحزن منذ الأزل ،لُعنت بداء الوحدة ورميت برصاص الأسى ،أتعلم …إنه رصاص يقتلك من الداخل ،في حين يبقى جسدك يتلقى شتى أنواع الآلام ،وبعدما أتيت وأحييت روحي المأسورة في قفص الذكريات هاهو القدر يريد أن يستأصلك من حياتي ،أتريدني أن أضحك…حسنا ها أنا اليوم أرسل عبر ضحكاتي شعورا بالأسى ،لا يمكنني أن أضحك بهذه الغصة في قلبي ،عيناي تُملئان بالدموع كلما حاولت تحريك شفاهي بابتسامة ،أنا أضحك لكني أنتحب من الداخل ،أتعلم لماذا يا جواد؟
سأقول لك: لقد تقدم شاب لخطبتي من عمي وعمي مصر على هذه الزيجة .
جواد :ثم ماذا ؟
صكتت ربى بضع لحظات وقالت :ثم لا شيء .
جواد :لقد فهمت إلى ماذا تلمحين ، لكن يا ربى أنت تعرفين حالتي المادية وحالتي الاجتماعية أنا شاب فقير وانحدر من عائلة مستضعف حالها كيف عساني أتحمل مصاريف الخطبة والزواج ،لابد أن تنتظريني عامين أو ثلاثة أعوام كي أستطيع جمع كل تلك المصاريف.
-ولا بأس يا جواد الأهم أن تتقدم لخطبتي ثم سأنتظرك العمر بأكمله أعدك بذلك.
– حسنا إذا غدا ستحل كل الأمور تصبحين بخير .
– وأنت بخير أحبك كثيرا.
كانت تلك الليلة لربى من أسعد الليالي على الاطلاق ،نهظت من فراشها وفتحت نافذة غرفتها وراحت تحدق في السماء تحاول السفر عبر أثيرها إلى حيث الحياة المثالية ،لكن صوت المنبه أعادها إلى الواقع المرير .
تقدم جواد لخطبتها لكن عمها رفض بعدما سأل عن الشاب واكتشف حالته الاجتماعية المزرية كما سمع أنه خريج سجون بسبب متاجرة المخدرات ،لكن ربى أصرت عليه ولم ترضى بغيره زوجا وألحت على عمها للقبول ولم تصدق كل ما قيل عليه ،قبل عمها بعد الحاح طويل ،أقامت ربى حفلة خطبة بسيطة بحضور أم جواد وإخوته و والدتها وعمها ،ومنذ ذلك اليوم اصبحت علاقتها بعمها سطحية جدا وهو الأمر الذي أسعد جواد فقد كُسرت جناحيْ ربى وصارت وحيدة لا سند لها ،فبدأ باستغلالها باسم الحب ،لكن ربى لم تتفطن لألاعيبه ووضعت يدها في يده ومشت معه في نفقه المظلم حاملة شمعة حب …تلك الشمعة التي سيطفأها يوما ما ويتركها وحدها في غياهب الظلمات تبتغي نور أمل ينتشلها من ضياعها.
– ربى لقد قرب موعد زفافنا وأنا واقع في ضائقة مالية كبيرة لا أعلم ما الذي سأفعله الآن .
– لا تقلق يا جواد كل شيء سيحل بإذن الله .
– لكن يا حبيبتي أحتاج المال فأنا مدين لعدة أشخاص ،ولا يوجد من استدين من عنده مجددا اااخ يا ربى لا أعرف ما الذي سأفعله !
– حسنا هون عليك سأساعد حتما فأنا حبيبتك وزوجتك مستقبلا ،سأضاعف كمية الحلوى التي اطهوها وابيعها هكذا استطيع مساعدتك بما تيسر لي.
وهكذا اصبحت ربى تطهو الحلوى ليلا حين تنام والدتها كي لا ترها ولا تعاتبها على فعلتها هذه لأنها لا تملك وقتا للراحة غير تلك السويعات القليلة بعد صلاة العشاء ،والآن صارت تغتنمها لمضاعفة كمية الحلوى .
بقيت ربى على هذه الحال لمدة شهرين تعمل ليلا نهارا وتتتقاسم مدخولها مع جواد الذي يخبئ المال لا من أجل سد الديون أو من أجل الزفاف بل من أجل تحقيق رغبته بالسفر خارج البلاد هربا من عصابة المخدرات التي تبحث عنه بعدما قام بسرقتهم .
بقي لعرسهما شهر فقط وربى تحضر لحفل زفافهما طبعت بطاقات الدعوة وبدأت بتوزيعها والبسمة لا تغادر ثغرها .
– لقد بقيت أيام قليلة وأزف إليك عروسا ،مرت الأيام سراعا وقلبي في كل يوم يزداد حبا ،قدري المؤلم آن له أن ينقضي وآن للسعادة أن تنجلي ،متحمسة جدا يا جواد ،وأنت ألست متحمسا ؟
– متحمس كثيرا يا حبيبتي ، ولكن …
ثم ساد سكوت طويل تقطعه تنهيدة من ربى .
– اااه لكن ماذا ، مازالت أيام قلائل فقط وتقول لي لكن !؟ أين حنينك وشغفك ..أين تلاشا؟
هل أنت متردد ،أو خائف من المستقبل أو خائف من النهاية
أليست نهاية جميلة !
– لم أقل هذا ولكن المال مشكلتي وعائق أمام سعادتنا ،لا أظن أن تمسكك هذا سيبقى إن أخبرتك بما أتحمله وأخفيه في قرارة نفسي كي تقر عينك ولا تحزني .
– أخبرني يا جواد رجاء أخبرني عسايا اقاسمك الوجع وأخفف عنك وزر ما تحمله في نفسك.
– حسنا يا ربى سأخبرك: لقد قرب الزفاف وعلي أن أعطيك مهرا كما هو معروف في ديننا ومجتمعنا ،لكني …لا أملك حاليا دينارا واحدا وعلى عاتقي من الديون ما يعجز الفم عن ذكرها أرى أن علينا تأجيل موعد الزفاف و….
– قاطعته ربى بصوت يكاد يشبه النحيب ،لا يمكننا تأجيل موعد الزفاف يا جواد فقد وزعت بطاقات الدعوة ،لا بأس أنا أتنازل عن كل شيء فالظفر بك يعوضني عن كل ما هو مادي ،إن مسعاي الوحيد هو العيش في كنفك ،
– لكن ماذا عن نظرة عائلتك لي حتما سأصغر في أعينهم يا ربى .. يا حبيبتي أنا مضطر لأن أطلب منك شيئا وأعدك أنه سيكون الطلب الأخير ،إن كان بحوزتك مبلغ من المال أعيريني إياه وأعدك أني سأعيد لك كل ما استدنته منك بعد الزواج .
سكتت ربى قليلا ثم أغلقت سماعة الهاتف والدموع تنساب من عينيها كالوابل المستمر ،فلم تعد تملك مالا ،كل الذي كانت تملكه أعطه لجواد لم يتبق لها غير خاتم أهدتها إياه والدتها في عيد ميلادها الثامن عشر وأخبرتها أنه خاتم خطوبتها و طلبت منها أن تحتفظ به إلى الأبد كذكرى خالدة.
مسحت ربى عينيها وفتحت درج الخزانة السفلي ،اخرجت منه علبة صفراء اللون يزينها شريط أسود فتحته وأخرجت الخاتم ،إنه خاتم عثماني تتوسطه زمردة كبيرة ،كان خاتما من الأحلام .
وضعته تحت وسادتها ونامت .
في الصباح الباكر ذهبت ربى إلى البائع المجوهرات باعت الخاتم وأعطت النقود لجواد .
مر أسبوع وجواد غائب حاضر في الذاكرة ،بحثت عنه في كل مكان لكن لا أخبار عنه ،حتى أتاها خبر من والدته أنه غادر الوطن فوق قوارب الموت ،نعم لقد هاجر الوطن هجرة غير شرعية ووصل الأراضي الاسبانية تاركا خلفه قصة كتبت بريشة الأمل لكن انتهت بالألم والحزن .
بعد سماع ربى لهذا الخبر سعقت ولم تستوعب ما يحدث وسقطت مريضة لعدة أشهر ،تبكي بصمت رهيب تقطعه شهقات الفراق المريب ،تورمت عيناها، وشحب وجهها الذي كان يجالس النجوم في غياب البدر ونحل جسمها الممشوق ، فصارت كالوردة المشتاقة لقطرة غيث ، فالمجتمع الشرقي لا يرحم ،ما إن خرجت قصتها الى الواقع حتى بدأ الجميع يتقاذفونها على ألسنتهم ويشيرون الى المضلومة بأصابع الاتهام ،كان المجتمع سابقا يئد المرأة وهي طفلة رضيعة لكن الآن أصبح يصلبها حية ويتركها تتلقى شتى أنواع الإهانات حتى لو كانت ضحية ذكر سحبت منه صفاة الرجولة .
لقد سلبها كرامتها ومالها ،سرق منها كل ما تملك ،استغل طيبة قلبها من أجل أن يجمع مالا ويهرب نحو عالم يخاله جنة وما هو إلا بداية الطريق نحو الضياع ،بقيت ربى ترسل لجواد الرسائل على حسابه في الفايسبوك تستفسر عن سبب استغلاله لها لكنه لم يرد على أي رسالة .
بقيت ربى حبيسة منزلها لعدة أشهر ترثي نفسها بالدموع ،حتى جف الدمع ،وجُبر الكُسر وطابت روحها الثكلى .
بعد شهور امسكت ربى هاتفها بيدين مرتجفتين ،فتحت حسابها على الفايسبوك وتركت لجواد رسالة قررت أنها ستكون آخر رسالة ترسلها .
-أتعلم يا جواد ..كان اللجوء إليك بمثابة هروب من واقعي وذكرياتي ،صدى حبي لك لازال يتردد في الذاكرة ..شاء القدر أن يعلمني درسا، إن اللجوء لا يكون إلا نحو الله وحده .
أمد يدي الآن كل ليلة وأدعو أن يهديك الله ،فأنا لست بتلك البشاعة التي تجعلني أدعو عليك بالشر ، لأن الشر لا يطرد الشر ،فقط الخير هو الذي يفعل ذلك ..
مر عامان على هذه الحادثة وانطفأت نيران الحب في داخلها و تولد من رماد ذلك الحب عزيمة وقوة واصرار على بناء حياة أخرى غير تلك التي أدخلتها في دوامة حب مهشم المشاعر.
لم تعد ربى تتحمل العيش في ذلك المنزل الذي شهد قصة حبها فكل زاوية فيه تشعل في عقلها ثورة ضعف وهوان ،باعته وغادرت الى العاصمة رفقة أمها لتبدأ حياتها من جديد .
في شرفة منزلها الجديد جلست فوق أرجوحتها وراحت تكتب أول كلمات روايتها :
بعدما سرقت مني طموحاتي وآمالي وزرعت بدل الابتسامة غيمة سوداء ترافق جفناي كل هنيهة ،ها أنا أعود للحياة مجددا لكن هذه المرة أنا أكثر قوة وأكثر عزيمة ،لن أنكسر مجددا وهذا عهدي إلى نفسي.
الآراء الواردة في هذه المشاركة تعبر عن رأي صاحبها فقط.
مروة رباعة
طالبة ماستر لسانيات عامة.
كاتبة ومدونة في مواقع التواصل الاجتماعي .
اترك تعليقا