لم يكن من أهل المدينة القدماء أو أحد أفراد العوائل العريقة فيها وأكثر الظن أنه جاء إلى المدينة قبل فترة من الزمن لا تزيد على خمس عشرة سنة أو يزيد ملتحقاً بأبناء عمومته الذين سبقوه بالمجيء إلى المدينة باحثاً عن عمل فيها ، وقد قام ابن عم له كان قد جاء إلى المدينة قبله بفترة ليست بالقصيرة وأصبح من تجارها المعدودين لكونه يمتلك ثروة بالتوسط له لدى ملاحظ المتصرفية في مركز اللواء فعينه مستخدماً أو ما يسمى ( فراشاً ) في ذلك الوقت في إحدى المدرستين الابتدائية الموجودة في المدينة بعد أن حصل على ترشيح له من مدير المدرسة بالحاجة الماسة إلى خدماته وبعد تعيينه بفترة قصيرة تزوج امرأة من أهل المدينة بمساعدة أبناء عمومته واستقر في بيت صغير . أما أسمه فكان أسماً غريباً عن أسماء أهل المدينة وهو الشخص الوحيد الذي يحمل هذا الاسم في المدينة دون أن يجد من يشاركه فيه والحقيقة لا يدري أحد كيف اختار له أهله هذا الاسم ولماذا ؟ إلا أنه توجد ثلاثة احتمالات لتسميته بهذا الاسم ، الأول منها أنه ولد في قرية جبيل التي تبعد عن المدينة عدة فراسخ وتقع على الضفة الأخرى من النهر ومنها جاء اسمه ونسب إليها ، إلا أن هذا الاحتمال غير وارد ومردود وأمراً مستبعداً جداً لأنه لم ينزح إلى المدينة من القرى التابعة لها وإنما جاء من مكان آخر ، أما الاحتمال الثاني فهو أنه قد ولد مستقبلاً القبلة أي أن أمه ولدته ميمماً وجهه شطر المسجد الحرام فسمي بهذا الاسم بعد أن قلبت القاف جيماً كما هو الحال في لهجة بعض الأعراب الذين يسكنون القرى التابعة للمدينة في تلفظهم القاف جيماً كما يقال للقبلة جبلة وصغر الاسم تحبيباً فأصبح كما هو عليه ، وهذا الاحتمال جائز إلا أنه لم يكن الأكثر صحة من بين الاحتمالات الثلاثة ، والاحتمال الثالث والذي يمكن أن يكون أكثر صحة من غيره هو أنه قد جاء إلى الدنيا على هيئة شيء كبير له سفح وقمة راسياً في الأرض أي أن أمه وضعته طفلاً كبيراً ضخماً كالجبل وصغر أسمه تحبيباً وأضيف إليه ياء النسب فأصبح يُعرف باسمه المعروف به الآن ، والحقيقة أن هيئة الرجل ومظهره تدل على ذلك فهو رجل ربعة أي لا بالقصير ولا بالطويل إلا أنه للقصر أقرب منه إلى الطول ، عريض المنكبين ذا بطن بارزة للأمام واسع الصدر عالي الكتفين مع تضخم ظاهر فيها ورقبة قصيرة ورأس مستطيل مضغوط قليلاً من الجانبين غير أنه يكون منبسطاً في أعلى الرأس وأقرب إلى الاستدارة منه إلى الطول قصير اليدين نوعاً ما يزين أصبعيه الخنصر في كل يد بمحبس مصنوع من الفضة مرصع بشذرة ذا خطوات واسعة في لسانه لثغة ورتلة بسيطة لا تمكنه من تلفظ الحروف بصورة صحيحة سريع الكلام عصبي المزاج حين يتكلم يقوم بإغماض عينيه وفتحها عدة مرات مؤشراً بيده وكأنه يقوم بإداء مشهد تمثيلي إلا أن السامع لا يستطيع أن يفهم من كلامه جميع ما يقوله لسرعته في الكلام ولعدم استطاعته نطق الحروف بصورة صحيحة . وكان هذا الرجل مريداً لشيخ من شيوخ الطريقة يدعى الشيخ أسعد ويروي مريدوا هذا الشيخ أن الشيخ أسعد قد تناحر مع قوم من شيوخ الطرق الأخرى متحدياً إياهم فحلب الجدي أمامهم فامتلأ الإناء بالحليب ولقب بالحلاب ، إلا أن الحقيقة أن الشيخ أسعد لم يحلب عجلاً ولا كبشاً ولا تيساً وإنما جاء إلى المدينة وافداً من مدينة حلب فسمي بالحلاب نسبة إلى مدينة حلب الشهباء كما أخبرني بذلك أحد ابنائه ، وكان الشيخ أسعد ذكياً بارعاً كثير المزاح له مريدون في المدينة لا يتورع في الكلام عند مناداة مريديه بالكلمات النابية وإطلاق الألقاب المضحكة عليهم والمزاح معهم وعمل المقالب لهم ، ويحكى أن الشيخ أسعد قد مر يوماً مع مرافق له فرأى أحد مريديه في المدينة يبني حائطاً ستارة لسطح داره ولما كان الشيخ أسعد يعرف طبع مريده ونفسيته ومزاجه العصبي معرفة جيدة أسر إلى مرافقه بالقول بأن البناء غير جيد وأن الجدار أعوج وطلب منه أن يخبر مريده صاحب الدار بذلك فما كان من المريد صاحب الدار إلا أن أقسم بهدم البناء وهو على وشك الانتهاء منه فتناول الشيخ أسعد المعول وصعد إلى سطح الدار وأخذ يهدم البناء فما كان من مريده إلا أن أمسك بيده وبالمعول قائلاُ لشيخه ماذا تعمل ؟ فقال الشيخ أسعد إنك أقسمت بهدم البناء وإني أريد أن أساعدك بالهدم فتوسل المريد بشيخه بالتوقف عن الهدم موضحاً له أنه أقسم متعجلاً لعصبيته الحادة وإنه لا يريد في الحقيقة هدم البناء فأخبره الشيخ أسعد بأنه هو الذي طلب من مرافقه أن يخبره بأن الجدار غير مستقيم فضحك الجميع وطلبوا من المريد الذي أقسم بهدم الجدار أن يقيم لهم وليمة فدية عن يمينه الذي أقسمه . وكان الشيخ أسعد بسيط المظهر لا يبالي في ملبسه كبقية الشيوخ بارتداء العمامة ولبس العباءة وإنما كان يلبس طاقية بيضاء في رأسه يغطيها بكوفية مخططة ( يشماخ ) دون اكتراث في المدينة أما إذا أراد السفر إلى مدينة أخرى فإنه يلف كوفية بيضاء فوق اليشماخ بشكل بسيط . وكان الشيخ أسعد يلقب مريده الذي يعمل مستخدماً ( فراشاً ) في المدرسة الابتدائية ( بالدابة ) لأنه لا يفقه شيئاً على الرغم من إطاعة المريد له إطاعة عمياء ، وقد قام المريد بعد شرب الطريقة من الشيخ أسعد (وهي طاسة صغيرة من الماء يقرأ عليها الشيخ ويشربها المريد ) بنزع العقال الذي يلبسه فوق الكوفية المخططة اليشماخ واستبدله بعمامة خضراء مميزة عن بقية العمائم الأخرى لكونها عالية ذات ارتفاع يزيد عن العشرة سنتيمترات تقريباً ، وهي من قماش أخضر قد طبق عدة طبقات بهذا القياس ولف بشكل أسطواني على قدر الرأس وثبتت بدبابيس حتى أصبحت اسطوانة مفتوحة من الأسفل والأعلى تكون حين تلبس تغطي جزء من الرأس أما الجزء الآخر فيكون فوق هامة الرأس بحيث تصبح كالقدر المفتوح بدون غطاء ، وقد قام المريد بعد وضع العمامة على رأسه بتسمية نفسه بالسيد ، وما أن شاهده الشيخ أسعد لابساً العمامة لأول مرة حتى صاح متعجباً لطيف ثم نسبه إليه مزاحاً فقال لطيفي ، وقد أخذ أهل المدينة هذا اللقب عن الشيخ أسعد فأخذوا يلقبوه بالسيد لطيفي مع علمهم بأنه لا يعرف من الأمور ما يمكنه من حمل لقب سيد الذي سمى به نفسه ، وقد أصبح هذا اللقب هو ما يعرف به في المدينة ، وأندثر أسمه القديم الغريب الذي لا يشاركه فيه أحد ، وقد أصبح السيد لطيفي معروفاً في المدينة وأشهر من نار على علم بعد انتقال الشيخ أسعد إلى مدينة أخرى حين ضاق به الرزق لقلة المراجعين له من أهل المدينة مما أتاح للسيد لطيفي من إقامة حلقات الذكر الأسبوعية في داره كل ليلة جمعة بعد صلاة العشاء موحياً لأهل المدينة أنه أصبح خليفة للشيخ أسعد على الرغم من عدم معرفته بشيء مما كان يقوم به الشيخ أسعد وما يحمله من معرفة في أمور معروفة لأهل المدينة ، وكانت حلقات الذكر التي يقيمها السيد لطيفي في داره يؤمها مريدوا الشيخ أسعد وأصدقاء السيد لطيفي وبعض المعلمين الذين يأتون إلى الحلقة اقتناعاً بتلك الحلقات والقسم الآخر يأتيها للتسلية والضحك ، إضافة إلى بعض تلاميذ المدرسة المتوسطة والمدرسة الثانوية بعد افتتاحها في المدينة وبعض التلاميذ الكبار في المدرستين الابتدائية وبعض الأشخاص الآخرين الذين يأتون الحلقة للفرجة على ما يدور فيها وقضاء الوقت ، كما كان يؤم هذه الحلقات بعض السكارى للتسلية والضحك متعمدين إفراغ هذه الحلقات من أهدافها التي أقيمت من أجلها وكانت حلقات الذكر تبدأ بالنقر على الدفوف بإيقاعات بطيئة أولاً وتنشد وتردد فيها المدائح والقصائد الدينية وقصائد أخرى تقوم بتمجيد شيوخ الطريقة ومن ثم تزداد سرعة الإيقاعات تدريجياً حتى يصبح الإيقاع سريعاً جداً وترتفع أصوات الضربات على الدفوف يرافقها حركات وتمايل من بعض الحاضرين وصيحات تزداد سرعة مع سرعة الإيقاع وارتفاع أصوات ضربات الدفوف ، وقد يحسب من يشاهدهم أنهم لا يدركون مما حولهم من شيء وكأنهم في عالم آخر ومجلس غير المجلس الذي هم فيه ، وحينما تصل حلقة الذكر إلى هذه المرحلة من التصعيد يقوم القائمون على أحياء هذه الحلقات بإطفاء النور وتستمر حلقة الذكر متنامية مشتدة مما يتيح للذين يؤمون هذه الحلقات للتسلية والضحك ترديد الأغاني المخالفة لنص القصائد والمدائح المنشدة إلا أنها تكون متناسقة نغمياً مع الإيقاعات التي تضرب بها الدفوف ، كما أن إطفاء النور يتيح لهم القيام بحركات راقصة وإطلاق صيحات مضحكة تفقد حركة الذكر من مغزاها التي أقيمت من اجله ، وبما أن النور مطفأ فإن الذين يقومون بهذه الحركات ومطلقي الصيحات ومرددي الأغاني المخالفة لنصوص القصائد والمدائح الدينية والقصائد الممجدة لشيوخ الطريقة لا يمكن تشخيصهم أو معرفتهم ، إلا أن السيد لطيفي الذي يقيم هذه الحلقات في داره ويجلس متصدراً الحلقة ضارباً على الدف متمايلاً مع الإيقاع وارتفاع أصوات الدفوف ناشداً المدائح مردداً القصائد بحركاته التمثيلية المثيرة يصيح بالحضور طالباً من الجميع الخشوع عند حدوث مثل هذا اللغط بصوته المضحك مما يساعد على إثارة الضحك مجدداً وتصعيده وتحويل تلك الحلقات الذكرية إلى مهرجانات تسلية لا مثيل لها ، وقد حدث في أحدى الحلقات بعد اشتداد الذكر وتصاعده بعد إطفاء النور أن قام أحد الحاضرين بجمع جميع أحذية الحاضرين في الحلقة وتعبئتها في كيس جنفاص ذا خطين أزرق من الأكياس التي كانت تجلب فيها الحنطة معبأة عند شراها من قبل التجار من بغداد أو المدن الأخرى إلى علاوي هؤلاء التجار لبيعها في المدينة قبل طحنها ورمى هذه الأحذية في النهر نكاية بالسيد لطيفي ومزاحاً معه لإثارته والتمتع بحديثه المثير وحركاته التمثيلية ، وبعد انتهاء الحلقة وإشعال النور لم يجد كل من كان حاضراً في الحلقة حذاءه مما أثار الضحك والغضب معاً وكثر اللغط فاضطر جميع الحاضرين للذهاب حفاة إلى بيوتهم وقيامهم بشراء أحذية جديدة في اليوم التالي ، وكان ذلك حدثاً لا ينسى تحدثت به المدينة أيام ، إلا أن السيد لطيفي دأب على إقامة تلك الحلقات أسبوعياً وباستمرار كل ليلة جمعة ولم تمنعه سرقة الأحذية عن التوقف عن إقامة تلك الحلقات غير عابئاً أو مكترثاً بما يحدث فيها وما يتخللها من ضحك لأن المهم عنده هو إقامة الحلقة ، إضافة إلى ذلك أنه قد يعتبر أن كثرة الحضور مهما كان هدفه يعد نصراً له ولطريقته ونهجه الذي رسمه لنفسه كسيد في هذه المدينة . وكان السيد لطيفي يعمل مستخدماً ( فراشاً ) في المدرسة الابتدائية التي تقع على الشارع الوحيد في المدينة ، وكان مدير المدرسة شخصاً شديداً قاسياً في تعامله مع التلاميذ والمستخدمين العاملين في المدرسة ومما يدلل على قسوته أنه لا يكتفي بضرب التلاميذ بل يقوم بضرب المستخدمين العاملين في المدرسة بيديه أو بالعصا أو رفسهم برجليه بقسوة متناهية ناهيك عن تعامله مع المعلمين بالترفع عليهم على الرغم من أنه لا يحمل إلا الشهادة الابتدائية لكونه من الرعيل الأول وممن يلبسون السدارة الفيصلية السوداء وأن أغلب المعلمين الذين يعملون معه هم من خريجي دور المعلمين الابتدائية في بغداد وخريجي الدورات التربوية التعليمية بعد الشهادة الإعدادية ، لقد كان مديراً قاسياً حريصاً جداً على إدارة المدرسة وإظهارها بالمظهر الذي يراه هو لا غيره وكان من شدة حرصه أنه كان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة تقع في المدرسة وقد رأيته يوماً ممسكاً بالمكنسة يكنس في ساحة المدرسة معلماً مستخدمي المدرسة ( فراشيها ) كيفية التنظيف ، ومما يدل على قسوته وتعمده القسوة مع المستخدمين وبالأخص مع السيد لطيفي بعد نزعه العقال ووضع العمامة الخضراء على رأسه أنه طلب منه يوماً نزح آبار الصديد التي تكون محلاً لتجمع الغائط والأبوال لارتباطها بالمرافق الصحية الخاصة بالتلاميذ والمعلمين ، ولما قال له السيد لطيفي إنه سيد ولا يجوز تكليفيه بالقيام بمثل هذا العمل أجابه المدير لا يوجد عنده سادة في المدرسة وإنما مستخدمين ، ولما رفض السيد لطيفي القيام بالعمل والامتثال لأمر المدير كادت أن تقع مشكلة لولا تدخل بعض الناس الخيرين وأبناء عمومة السيد لطيفي وأقربائه بتداركهم الأمر واستئجار شخص متخصص يقوم بهذه المهمة وحُل الأشكال ، وكانت واجبات السيد لطيفي في المدرسة تتنوع من تنظيف الصفوف الدراسية وساحة المدرسة إلى إعداد التغذية وتوزيعها على التلاميذ كذلك الجلوس بباب المدرسة الواقع مباشرةً على الشارع الوحيد في المدينة على كرسي صغير لمنع التلاميذ من لهروب أو الخروج قبل انتهاء الحصص المدرسية ماسكاً بيده عصا لتخويفهم ومنعهم من الهروب إلى غيرها من الواجبات الأخرى التي كان يكلف بها من قبل مدير المدرسة ، وكانت معونة الشتاء ترسل سنوياً من بغداد في فصل الشتاء وتوزع على بعض تلاميذ العوائل غير الميسورة الحال في المدرسة مجاناً وهي بدلة شتائية مكونة من سروال وسترة ، وكان يرسل مع معونة الشتاء الخاصة بالتلاميذ معونة شتاء خاصة بمستخدمي المدرسة أي ( فراشيها ) ، وكانت معونة الشتاء الخاصة بالمستخدمين تختلف لوناً وقماشاً عن معونة الشتاء المخصصة للتلاميذ حيث أن البدلات الموزعة على التلاميذ ذات ألوان تكون ملائمة لأعمارهم نوعاً ما ، أما معونة الشتاء التي توزع على المستخدمين فهي ذات ألوان وقماش يتلائم مع عملهم وهي مكونة من بدلة شتائية سروال وسترة إضافة إلى غطاء رأس سدارة من نفس قماش البدلة ، إلا أن السدارة تختلف عن السدارة الفيصلية التي يلبسها بعض موظفي الدولة ومنهم مدير المدرسة ، حيث أنها أقرب شكلاً إلى السدارة التي يرتديها أفراد الشرطة العراقية بدون النجمة النحاسية التي توضع في مقدمة السدارة وهي شعار الشرطة العراقية حينذاك أو أقرب إلى تلك السدارة التي يرتديها جنود ومراتب الجيش العراقي في ذلك الوقت بدون علامات الصنوف التي تثبت في مقدمة السدارة ، جمع مدير المدرسة المستخدمين ووزع عليهم الكسوة الشتوية وطالب الجميع بنزع الدشداشة والكوفية والعقال التي يرتديها كل منهم أو أي لباس آخر وارتداء الكسوة الشتوية الجديدة كاملة دون الإشارة من بعيد أو قريب إلى العمامة التي يضعها السيد لطيفي على رأسه وقال على الجميع الامتثال للأمر اعتباراً من يوم غدٍ وحذرهم جميعاً من المخالفة ، ولما كان السيد لطيفي يلبس العمامة الخضراء في رأسه فقد توسل بالمدير على انفراد بالسماح له بارتداء الزي الجديد عدا السدارة لأن ارتداءها سوف يسيء إليه لكونه سيد قد شرب الطريقة من الشيخ أسعد وإن نزع العمامة وارتداء السدارة محلها سوف يضعه في موقف محرج بل مضحك أمام التلاميذ والمعلمين وقد يكون أمام أهل المدينة الذين سوف يرونه لابساً إياها ، إلا أن مدير المدرسة أصر بأن يرتدي السيد لطيفي الزي الشتائي كاملاً بما فيه السدارة وطلب من السيد لطيفي أن يجلس بباب المدرسة اعتباراً من بداية الدوام الرسمي ليوم غد لأن الجلوس بالباب كان من نصيب السيد لطيفي حسب المناوبة بين المستخدمين ، أدرك السيد لطيفي خطورة الموقف لأنه سوف يكون مثاراً للسخرية والضحك من قبل جميع المارة في شارع المدينة الوحيد مما دفعه بالتقدم باقتراح إلى المدير مفاده أنه سوف يقوم بارتداء الزي الشتوي كاملاً بما فيها السدارة على أن يكون عمله داخل المدرسة لا الجلوس بباب المدرسة متحملاً نظرات التلاميذ الصغار ومعلمي المدرسة دون المارة من أهل المدينة في شارعها الوحيد ، إلا أن مدير المدرسة رفض اقتراح السيد لطيفي وأمره بالجلوس بباب المدرسة اعتباراً من بداية الدوام من صباح الغد متعللاً بأن الجلوس بالباب من نصيبه ولا يقبل أحد من المستخدمين الجلوس بالباب بدلاً عنه ، وأكثر الظن أن المدير قد تعمد رفض اقتراح السيد لطيفي بخبث ظاهر وانتقاماً منه لأنه أراد له أن يكون موضع سخرية لا في داخل المدرسة فقط من قبل التلاميذ الصغار والمعلمين والمستخدمين العاملين معه في المدرسة وإنما أراد به أن يكون موضع سخرية أهل المدينة جميعاً الذين يمرون في سوق المدينة الوحيد ويرونه في زيه الجديد ، لقد أدرك السيد لطيفي خطورة ما وقع فيه فهو لا يستطيع أن يتغيب عن الحضور غداً متعللاً بالمرض وكيف يُصدقُ بأنه مريض كما لا بد من حضوره للحصول على الاستمارة الطبية من قبل المدير لإرساله إلى المستوصف وإن حضوره يتطلب أن يحضر بالزي الجديد للحصول على الاستمارة ، وقد لا يمنحه الطبيب إجازة مرضية لأنه ليس مريضاً ، أما إذا تغيب فإنه سوف يحصل على عقوبة ويثير مشكلة جديدة مع المدير وقد تكون العقوبة قطع الراتب وقد تصل إلى الفصل النهائي متذكراً بأن مشكلته الأولى مع المدير لم يمضِ عليها وقت طويل ، وإذا كان الحق معه في المرة السابقة عندما رفض أمر المدير فإن الحق مع المدير في هذه المرة ولن يجد من يقف بجانبه من أبناء عمومته أو الخيرين من أهل المدينة ذلك لأن التعليمات مطبقة على جميع المستخدمين في المدرسة ولا تشمله هو وحده وهذا ليس عيباً كما كان في مشكلته الأولى مع المدير ، وفكر السيد لطيفي بأن المدير لن يتسامح معه هذه المرة إذا امتنع أو خالف أوامره وإنه سوف يعاقبه لا محال وبما أنه يعرف ما يكنه له المدير فإنه سوف يقوم بفصله من العمل قطعاً ،ولما كان الحصول على عمل في المدارس أو الدوائر الحكومية من الصعوبة بمكان أن يحصل عليه شخص مثله لا يعرف القراءة والكتابة ، كما أن العمل لا يمكن أن يحصل عليه إلا ذوي الحضوة أو أصحاب الوساطات أو ممن يسعفه الحظ ويعين وقت الحاجة الماسة لمعرفته بالإدارات التي ترشح العاملين وترسلهم بعد حصول الموافقة على التعيين إلى بغداد للحصول على شهادة الجنسية وشهادة عدم المحكومية وشهادة حسن السلوك ومن بعد ذلك يصدر الأمر الإداري للتعيين من المتصرفية أو الإدارة المختصة بذلك ، ولولا أن قريبه قد توسط له لدى ملاحظ المتصرفية في مركز اللواء وطلب من مدير المدرسة ترشيحه للعمل لما استطاع أن يحصل على هذه الوظيفة في هذه المدرسة ، وتنبه السيد لطيفي أيضاً بأن المدير قد غير سلوكه معه نحو الشدة منذ أن أرتدى العمامة ونزع العقال وإنه يعرف من خلال عمله في المدرسة أن المدير إذا أراد شيئاً فلا بد من تنفيذه ، وإن عدم التزامه بإطاعة المدير وتنفيذ التعليمات سوف يعرضه للعقوبة لا محال وقد تكون العقوبة فصلاً نهائياً من العمل لا سيما وأنه يعرف المدير وما يلاقيه منه أثناء الدوام والعمل في المدرسة من معاملة قاسية يكفي ، لذلك قرر السيد لطيفي نزع العمامة وارتداء الزي الشتوي كاملاً بما فيها السدارة والجلوس بباب المدرسة على كرسي صغير في الشارع الوحيد في المدينة حاملاً العصا بيده لمنع التلاميذ من الهروب من المدرسة أو الخروج قبل أنتهاء الدوام ، وكان من عادة مدير المدرسة أن يأتي إلى المدرسة مبكراً صباحاً قبل المعلمين ليقوم بجولة تفتيشية يلاحظ فيها نظافة قاعات الدرس ونظافة ساحة المدرسة ويراقب عمل المستخدمين لإعداد التغذية المدرسية ويقدر لهم المقاييس والأوزان قبل البدء بالعمل ، إلا أن السيد لطيفي قد جاء إلى المدرسة مبكراً قبله في هذا اليوم حاملاً الكسوة الشتوية بيده كي يستطيع أن يغير ملابسه القديمة ويرتدي الكسوة الجديدة كاملة في أحد الصفوف أو في غرفة المعلمين قبل مجيء التلاميذ أو المعلمين ، وبعد ارتداء الملابس الجديدة بما فيها السدارة لف السيد لطيفي ملابسه القديمة بعضها ببعض منتظراً المسؤول عن مخزن التغذية ليضع ملابسه القديمة فيها ، وبعد أن قام بكل ذلك أخذ العصا بيده وحمل كرسي صغير جلس عليه بباب المدرسة على الشارع الوحيد في المدينة ، لقد كانت هيئة السيد لطيفي مثاراً للسخرية والضحك ومثاراً للرثاء في آن واحد فلقد تغير شكله تماماً عما كان عليه بعد نزع ملابسه القديمة وارتداء الزي الجديد ، وكان أكثر المارة في الشارع يقفون أمامه محدقين به ضاحكين لأنهم لم يألفوه بملابسه الجديدة إلا أن السيد لطيفي كان يسبقهم قبل أن يتكلموا بالإشارة باصبع سبابته اليمنى مشيراً به إلى السدارة مبتدءاً الكلام قائلاً ( شوفوا شسوا بينا المدير ) أي انظروا ماذا فعل به المدير ثم يشرح لهم لا بد من إطاعة الأوامر ويعتذر عن نزع العمامة ويبرر إن لم يفعل ذلك فقد يفصل ويفقد عمله ، وإنه لا يستطيع القيام بعمل آخر غيره وإن الحصول على الوظيفة أمرٌ صعبٌ وأنه ليس الوحيد الذي يلبس الزي الجديد وإنما يلبسه مثله جميع المستخدمين العاملين في المدرسة ، كما يضيف بأن عدم إطاعة الأوامر سوف تسبب قطع رزقه ورزق أطفاله إذا فصل من العمل ، فيضحك البعض ويتركونه مواسيين إياه بينما يقوم البعض الآخر من المازحين معه بمشاكسته وتحديه وإثارته والرد عليه ومسائلته كيف تتخلى عن عمامتك وتنزعها بهذه السهولة ؟ لو كنت سيداً حقاً لما تخليت عنها ولـ ( شورت به ) أي تركت أثراً بالمدير أمرضته أو أصبته بعاهة ويتمادون بإغاضته واصفين إياه سيد كذب أي سيد غير حقيقي مخاطبينه لو كنت سيداً حقاً لما قبلت بنزع عمامتك وإن السيد الحقيقي لا يقبل أن تنزع عمامته حتى ولو فصل من عمله ويزيدون من إثارته بالقول مازحين معه بأن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يهيئ له عملاً آخر غير عمله هذا إذا كان سيداً حقاً متمسكاً بعمامته الخضراء ، فيقوم من مكانه هاشاً بالعصا التي بيده ملوحاً بها شاتماً إياهم بألفاظ نابية بلغته السريعة الرتلاء وحركاته التمثيلية قائلاً تريدونني أن أترك العمل ليحل أحدكم مكاني فيه ، تريدونني أن أجوع أطفالي ، إن عمامتي الخضراء لا توُكل أطفالي خبزاً مثل باقي العمائم الخضراء مشيراً إلى أناس آخرين يدّعون أنهم سادة ويلبسون عمائم خضراء يقومون بعمل الرقيا والأدعية لمن يطلبها منهم لقاء مبالغ بسيطة ، ولما كان هو لا يستطيع القيام مثلهم بهذا العمل لأنه لا يعرف القراءة والكتابة وإنه لا يعرف شيئاً عن طبيعة هذا العمل فإنه يشير إليهم بحسد دائماً ، ثم يقسم بأنه سيبقى مرتدياً الزي الجديد كاملاً بما فيه السدارة في محل عمله ويتقدم خطوة باتجاه مكلميه محاولاً ضربهم بالعصا التي بيده إلا أنهم يولون مسرعين ضاحكين تاركينه إلى جماعة أخرى من المارة ليبادرهم بالحديث شارحاً لهم ما قاله للجماعة التي سبقتهم منتظراً ردود أفعالهم ليتعامل معهم حسبما تمليه عليه ردود تلك الأفعال .
( 2 )
كان السيد لطيفي يتمنى منذ زمن طويل الذهاب إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج إلا أن عمله في المدرسة وعسر الحال كان من الأسباب المانعة له للقيام بزيارة الديار المقدسة وإداء فريضة الحج ، لكنه بعد خروجه من الخدمة وإحالته على المعاش وبعد أن كبر أولاده وأصبحوا يعملون مساهمين في زيادة دخل العائلة ناهيك عما تساهم به زوجته وما تضيفه من دخل للعائلة لما كانت تقوم به من عمل يكون بمقام طبيبة نسائية واخصائية بطب الأطفال بدون شهادة طبية ، فهي قابلة مأذونة بدون إجازة تولد النساء وطبيبة نسائية واخصائية أطفال تداوي الأطفال والنساء بوصفات عشبية تصفها لهم لشرائها من العطار وتقوم بالتدليك والتمسيد وعمل المساج كما أنها تقوم يتثقيب الآذان للبنات الصغار إلى غير ذلك من الأعمال الأخرى كل ذلك زاد من دخل العائلة وحسّن من أحوالها المادية مما جعل السيد لطيفي يقرر في نفسه أو أن يتخذ قراراً بالسفر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج ، وقبل أن يعلن قراره بالسفر لأداء الفريضة أخذ السيد لطيفي يهتم بمظهره العام بارتداء العباءات الجيدة والملابس النظيفة واحتذاء الأحذية الجلدية ذات اللون الأحمر اللماعة ، كما أنه بدأ بتدخين الشيشة ( النرجيلة ) مثل بعض كبار الناس في المدينة مدخناً التبغ الهندي دون التبغ الشيرازي لكون التبغ الهندي من النوع الشاطر كما يصفه مدخنوا النارجيلة ، معاملاً التبغ الذي يدخنه معاملة خاصة بغسله عدة مرات وتنقيته من الشوائب وإضافة ماء الورد والروائح الطيبة إليه وحمله في جيبه في كيس خاص من الجلد الأحمر يتناسب لونه مع لون الحذاء الذي ينتعله في رجليه خوفاً من أن يوسخ التبغ ملابسه النظيفة ، كما أنه اتخذ له نارجيلة خاصة به مودعة في أحدى مقاهي المدينة التي يرتادها دائماً لا يستعملها غيره للتدخين كما أنه أوصى على ( قمجي ) خرطوم مص الدخان من مدينة حلب ومن النوع الجيد يحمله دائماً معه في جيبه ناهيك عن نارجيلته الخاصة التي يستعملها في بيته التي زينها ورتبها بصورة كالعروس كما يقال ، وقد أطال السيد لطيفي لحيته قليلاً بشكل خفيف بعد أن كانت حليقة حينما كان يعمل مستخدماً ( فراشاً ) في المدرسة لعدم السماح له بإطالتها حسب التعليمات وبأمر من مدير المدرسة الذي يعتبر إطالة اللحية مخالفة لا يمكن السكوت عنها . وعلى الرغم مما حل بالسيد لطيفي من تحسن في أحواله المادية إلا أنه لا زال كعادته السابقة عصبي المزاج متحدثاً بسرعة مؤشراً بيديه التي تزين خنصريها الخواتم الفضية المزينة بالشذر وبلغته الثغائية الرتلاء وبحركاته الأخرى كاغماض العينين وفتحها عند الكلام وغيرها من الحركات التي يظنها الذي يراه لأول مرة أنه يقوم بأدء مشهد تمثيلي إلا أن من كان يعرفه جيداً يحس به حزيناً مهموماً وإن هنالك شيئاً ما يشغله دائماً لا يمكنه الإفصاح عنه ، وقبل أن يعلن السيد لطيفي قراره بالسفر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج أقدم على تزويج أبنته الوحيدة إلى أحد أبناء شيخه أسعد وفاءً منه لشيخه وهو يرقد في قبره ولزيادة الصلة مع عائلة الشيخ أسعد والارتباط بها بنسب المصاهرة تأكيداً للقب السيد الذي أصبح يلقب به من أهل المدينة ، ومما يلفت النظر ويؤكد ذلك أنه حدث وأن صلى إمام الجامع الكبير في المدينة صلاة الغائب على أحد علماء الدين الذي توفى في أحد الأقطار العربية فما كان من السيد لطيفي إلا أن وقف في باب حرم الجامع صائحاً بإمام الجامع والمصلين بأعلى صوته وبلغته المعروفة السريعة لماذا لا تصلوا صلاة الغائب على أبن عمي الشيخ أسعد ؟ إلا أن الإمام لم يستجب له وتركه مادة لمزاح المصلين الذين يعرفون بأن الشيخ أسعد لا يمت بصلة قربى إلى السيد لطيفي لا من قريب ولا من بعيد ، أما حلقات الذكر فقد كان السيد لطيفي مستمراً على إقامتها أسبوعياً كل ليلة جمعة وفي بعض المناسبات التي يعتبرها ضرورية ولم ينقطع عن إقامتها حيث أن الاستمرار في إقامتها يعتبر تأكيداً للقب السيد الذي أصبح يُعرفُ به في المدينة ، وبعد إتمام زواج أبنته وانقضاء سبعة أيام على زواجها تنفس السيد لطيفي الصعداء وكأنه قد أزاح شيئاً كان يجثم فوق صدره فأخذ يصرح في مجالسه الخاصة بنيته للسفر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج لهذه السنة وقبل قدوم وقت إداء الفريضة بفترة ولم يكتف بذلك بل وقف في أحدى أمسيات الخميس وقبل البدء بإقامة حلقة الذكر فأعلن أنه ذاهبٌ هذا العام إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج التي كتبها الله على المسلمين ممن استطاع إليه سبيلا بلغته الرتلاء وحركاته التمثيلية طالباً من الحضور أن يسامحوه ويواهبوه خوفاً من أنه قد أساء أو أخطأ مع أحد منهم في يوم ما ، كما أنه طلب من الحضور تبليغ الغياب ليسامحوه ويواهبوه أيضاً ، وما كاد السيد لطيفي أن ينتهي من أعلانه حتى بدأ ضاربو الدفوف المحيطيون به بالضرب على الدفوف بلحن معين وصاح جميع الحاضرين بصوت واحد متناسقٍ مع اللحن مسامحينك سيد لطيفي ، مواهبينك سيد لطيفي وكثر اللغط والضحك وترنح قسم من الحاضرين على أصوات الدفوف وألحانها بحركات راقصة . وقبل قدوم وقت السفر إلى الديار المقدسة بوقت قليل استوهب السيد لطيفي معارفه وأصدقاءه وأقاربه وطلب منهم المسامحة ، وصالح من تخاصم معهم وطلب منهم العفو والمعذرة ، وكان من عادة المدينة أن تقوم بتوديع حجاجها بتظاهرة كبيرة إلى خارج المدينة مشياً على الأقدام يشارك بها جميع أهالي المدينة حاملين الأعلام الخضراء ناقرين ضاربين على الدفوف بإقاعات معينة مرددين منشدين المدائح الخاصة بالوداع والحجاج محاطين بالمودعين سائرين وسط التظاهرة متمنطقين بالأحزمة الخاصة لابسين ملابس السفر ماشين حتى يصلوا إلى محل وقوف الحافلات التي تنقل الحجاج إلى الديار المقدسة والتي تقف خارج المدينة عادة ، وعند موقف الحافلات يتم توديع الحجاج من قبل الأهل والأصدقاء وجميع السائرين في موكب الوداع من أهل المدينة مصافحين الحجاج مقبلينهم متمنين لهم سلامة الوصول والعودة بسلام وكثيراً ما يجهش الحجاج والمودعون بالبكاء قبل الصعود إلى الحافلات ، كذلك يشارك النساء بتوديع الحاجات وذويهم وأصدقائهم وجيرانهم من الحجاج ، إلا أن النساء لا يشاركن بالسير بالتظاهرة وإنما يتجمعن قرب الحافلات التي تنقل الحجاج إلى الديار المقدسة وهن ينتظرن وصول التظاهرة وموكب الحجاج لتوديعهم إذا كانوا ذوي قربى أو جيران أو أصدقاء ، وبعد السلام والتوديع يصعد الحجاج إلى الحافلات ملوحين بالأيدي مودعين من قبل الجميع داعين لهم بسلامة الوصول وسلامة العودة ، وكان السيد لطيفي سائراً مع موكب الحجاج في الوسط بعمامته الخضراء العالية مرتدياً عباءة جديدة متمنطقاً بحزام جلدي عريض فيه جيوب مخفية لحفظ النقود وحاملاً الدف بيد وضارباً عليه باليد الأخرى متمايلاً بعمامته الخضراء مردداً مدائح الوداع حتى وصول التظاهرة إلى محل وقوف الحافلات ، عندها سلم على جميع مودعيه وأنتحى جانباً إلى جمع النساء فسلم على مودعيه منهن وما أن أنتهى من ذلك حتى صعد إلى إحدى الحافلات حاملاً الدف بيده وجلس على المقعد المحجوز له فيها ثم بدأ بالضرب على الدف ناشداً مردداً المدائح متمايلاً مع الضربات غير عابئ بما حوله في الحافلة حتى بدأت الحافلة سيرها إلى الديار المقدسة . وبعد انتهاء أيام عيد الأضحى استعد أهل المدينة لاستقبال حجاجهم الذين ودعوهم لأداء فريضة الحج ، وكما كان للوداع مراسيم فإن للاستقبال مراسيم أيضاً لكن هذه المراسيم تتعاكس مع مراسيم الوداع في أشياء وتتشابه معها في أشياء أخرى حيث يتجمع المستقبلون من أهل المدينة خارج المدينة حاملين الأعلام الخضراء بأيديهم ناقرين ضاربين على الدفوف منشدين مدائح الاستقبال والترحيب منتظرين وصول الحافلات مرددين ( يا هله بحجاج مكة يا هله بالزائرين ) وعند وصول الحافلات ينزل الحجاج من الحافلات مسلمين على مستقبليهم معانقينهم سائرين وسط جموع المستقبلين حتى يستطيع المستقبلون في التظاهرة التي تزداد أثناء المسير من السلام عليهم وتحيتهم حتى يصلوا نقطة في داخل المدينة يتفرقون منها للذهاب إلى بيوتهم ، أما النساء الحاجات فيقوم أقربائهن وذويهن باستئجار سيارات صغيرة لهن وإيصالهن إلى بيوتهن ويتولى أولاد الحاج أو الحاجة تفريغ حاجات وأمتعة الحاج أو الحاجة ونقلها إلى بيوتهم ، وكثيراً ما يشارك النساء في استقبال الحجاج إلا أن استقبال النساء يكون هذه المرة داخل بيوت الحجاج ، وكان هناك اعتقاد سائد بأن النساء العقيمات إذا قمن بحل حزام الحاج عند دخوله بيته لأول مرة فإنهن يلدن لانحلال عقدهن عند حل الأحزمة متبركين بالحجاج عند قدومهم لأول مرة وإنهن سوف يحملن وينجبن إذا قاموا بهذه العملية ، لذلك نرى بعض النسوة يأتين مسرعات ويحللن حزام الحاج عند دخوله بيته لأول مرة ، ويروي البعض بأن الكثير من النساء العقيمات اللاتي سارعن بحل أحزمة الحجاج العائدين لأول مرة بعد إداء فريضة الحج قد حلت عقدهن وحملن وأنجبن ، إلا أن الحقيقة أن هنالك نساء مصابات بعقم مؤقت نتيجة لحدوث ألتهابات في داخل الرحم وفي جداره تزول هذه الالتهابات بعد مرور وقت أو بالتداوي مما يسبب زوال العقم المؤقت وحدوث الحمل والإنجاب ولا علاقة لحل حزام الحاج بالعقم والإنجاب مطلقاً ، أما النساء العقيمات عقماً دائمياً فإنهن لا يلدن مهما حللن من أحزمة الحجاج القادمين من الديار المقدسة لأول مرة لكون عقمهن عقماً دائمياً لا يزول مهما كانت الأسباب . وكان من عادة الحجاج القادمين من مكة أن يجلسوا في بيوتهم ثلاثة أيام محاطين بأولادهم وأقاربهم احتفاءاً بقدومهم من الديار المقدسة قبل العودة إلى مزاولة أعمالهم المعتادة أو الخروج إلى مقاهي المدينة وسوقها الوحيد إن لم يكن لهم عمل ليستطيع أهل المدينة من السلام عليهم والترحيب بهم مجدداً والسماع منهم ما حدث لهم في الديار المقدسة ، فيقوم الزائر بمعانقة الحاج والترحيب به والسلام عليه وترديد العبارة المشهورة ( العودة العودة حج مبرور وسعيٌ مشكور وتجارة لن تبور ) ويقدم الحجاج الجدد لزوارهم ومهنئيهم الذين يأتون للسلام عليهم الحلوى والقهوة المرة وفي بعض الأحيان أقداح صغيرة تملأ بماء من بئر زمزم يقوم الحجاج بشرائه من مكة وجلبه في أواني زجاجية او خزفية كبيرة ، وكانت العادة تقضي أن يقوم الذي يقدم له ماء زمزم من مكانه ويقف ويستقبل القبلة أي أنه يتجه بوجهه نحو الكعبة المشرفة ومن ثم يشرب الماء وهو واقف ثم يرجع للجلوس في مكانه أما الأصدقاء أو الأقرباء والجيران فيكرموا من قبل الحاج بإهدائهم سجادة صلاة أو قطعة قماش أو دشداشة أو كوفية بيضاء أو كوفية مخططة وغير ذلك من السلع التي يجلبها الحجاج هدايا للتوزيع ، كما أن بعض الحجاج يهدي إلى بعض الزائرين الذين يأتون للسلام عليه مسبحة وطاقية ومسواك لتنظيف الأسنان وهو عود من شجر الآراك يجلب من مكة المكرمة ، أما زوجة الحاج فإنها تقوم بتوزيع ملابس البيت النسائية والربطات ( أغطية الرأس ) ولعب الأطفال على الأقارب والأصدقاء والجيران وبعض المقربين . وفي اليوم الثالث على وصول الحجاج كان السيد لطيفي جالساً في بيته معمراً نرجيلته يدخن محاطاً بأولاده وأقاربه وبعض الحضور متحدثاً بلغته المعروفة محركاً يديه نافثاً الدخان بسرعة وكأنه يقوم بأداء مشهد تمثيلي بادياً عليه السرور والانشراح ، جاءه شخص من أهل المدينة للسلام عليه فعانقه وسلم عليه متمنياً له العودة مرة أخرى إلا أن هذا الشخص لم يناد السيد لطيفي بالحاج بل ناداه بالسيد لطيفي كما كان ينادى من قبل أهل المدينة قبل الذهاب إلى الحج ، فما كان من السيد لطيفي إلا أن انفجر غاضباً قائلاً ( ……. شسخمنة شلطمنه ، شسوينه ، كأننا يا ناس لا رحنه ولا جينه ) واصفاً نفسه وما قام به وما أداه بكلمة نابية لا تطلق إلا على سماسرة الجنس صائحاً بالزائر المهنئ بعصبية لماذا تناديني بالسيد ولا تدعوني بالحاج كأنني لم أذهب إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج والعودة ؟ فبهت الزائر وتلعثم معتذراً إنه لم يكن يقصد الإساءة إليه وإنما قد تعود على مناداته بالسيد لطيفي من قبل ولم يفطن بأن السيد لطيفي يريد أن ينادى بالحاج ، وتدخل الحضور فأصلحوا ذات البين بين الحاج السيد لطيفي والزائر المهنئ معتذرين عن الزائر بأنه لم يتعود على مناداته بالحاج بعد مما دفع الزائر للقيام بالاعتذار مرة أخرى وتقبيل رأس السيد لطيفي وترديد ما قاله الوسطاء من الحضور إنه قد تعود على مناداته بالسيد لطيفي قبل أن يسافر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج ، فهدأ السيد لطيفي وانشرح صدره وضحك ونادى أحد أولاده وأمره بإعطاء مسبحة سوداء وطاقية بيضاء ومسواك لتنظيف الأسنان للزائر المهنئ وطلب له كأس صغير من ماء زمزم اعتراقاً منه بصفحه ورضاه عنه ، فقام الزائر من مكانه ميمماً وجهه شطر الكعبة المشرفة وأفرغ الكأس الصغير من ماء زمزم دفعة واحدة في فمه محولاً الكأس إلى قدح مستأذناً الحاج وجميع الحضور بالخروج ومجدداً الاعتذار مرة أخرى ثم خرج .
( 3 )
كان للسيد لطيفي قريب من بعيد مدمن على شرب الخمر وكان هذا رجلاً قصير القامة أحمر الوجه متورد الخدين لمعاقرته الخمر أثناء الليل وآناء النهار يغطي رأسه بطاقية بيضاء وينتعل في رجليه حذاء حلبي الصنع يسمى ( اليمني ) ، واليَمَنيات أنواع منها الأحمر الفاتح ومنها الأحمر الغامق ومنها من له كعب ومنها بدون كعب إلا أن اليمني الذي ينتعله عبد العزيز قريب السيد لطيفي ذو لون وردي ليس له كعب شبيه بالخف ، خفيف ، لطيف المنظر ، وكان عبد العزيز يلف فوق ملابسه من الأمام قماش ذو لون أحمر غامق مخطط بالأصفر يكون طوله وعرضه بقياس المنشفة يسمى ( البشتمال ) يثبته عبد العزيز بحزامه من الأمام والجانبين للحفاظ على ملابسه من الاتساخ وحفاظاً عليها من نقاط الشاي المتساقطة عند تقديم الشاي للزبائن ، لأنه كان صاحب مقهى صغير يقوم بتقديم الشاي إلى الزبائن بنفسه عوضاً عن استئجار عامل يقوم بتقديم الشاي للزبائن لكون المقهى صغيرة ولا يؤمها من الزبائن إلا القليل ، أما أبنه الوحيد فإنه يقوم بمناولة الماء إلى الزبائن حين يطلبون ويقوم بما يقوم به والده بتقديم الشاي لهم بدلاً عن والده في وقت استراحة الوالد . وكانت المقهى صغيرة تقع مجاورة للخان الكبير للمدينة بل أن مالكها هو مالك الخان وصاحبه وقد استأجرها عبد العزيز منه ليتمكن من تغطية مصاريفه الخاصة ومصاريف عائلته الصغيرة المتكونة من ثلاثة أو أربعة أفراد ، وقد كان عبد العزيز قبل هذا الحين من مستأجري المقاهي الكبيرة بل من مالكيها وكان يجلس على كرسي خاص به في باب المقهى وأمامه صينية الدخل أي صينية جمع النقود المدفوعة من قبل رواد المقهى لقاء الشاي المقدم لهم ، وكان لديه عمال أو ما يسمى صناع في ذلك الوقت عديدون وكان يأمر وينهي كما يقال إلا أن حال الدنيا تتغير من وقت لآخر أو كما يقول الشاعر ( والدهر فيه تغيرٌ وتقلب ) حتى أصبح حاله كما هو عليه ، وكان عبد العزيز يباشر الشرب عند افتتاح المقهى صباحاً قبل طلوع الشمس ويستمر بالشراب حتى وقت إغلاق المقهى ليلاً والذهاب إلى بيته للنوم يومياً ، إلا أن عبد العزيز كان هادئ الطبع لطيف المعشر صاحب فكاهة بشوشاً ضحوكاً لا يحس بإدمانه ولا يعرفه إلا العارفون والمجربون للشرب ، ولما أصبح إيراد المقهى قليلاً لا يسد مصاريف عبد العزيز ولا مصاريف بيته لقلة الزبائن على الرغم من مجاورة المقهى للخان الكبير في المدينة قام عبد العزيز بشراء مجموعة من الدراجات الهوائية من بغداد ووضعها في المقهى وأخذ يؤجرها لمن يطلبها حسب الوقت أو بالساعة لكي تدر عليه دخلاً إضافياً يمكنه من تغطية تكاليف المعيشة له ولعائلته الصغيرة أو بالأحرى مصاريفه الخاصة ومصاريف عائلته الصغيرة ، وكان من عادة خطيب المدينة ومفتيها الملقب بالخطيب المرور في بعض أيام الأسبوع في سوق المدينة الوحيد لقضاء بعض الحاجات بنفسه فيخرج إليه أصحاب الدكاكين والمحلات والمقاهي المصطفة على جانبي السوق مسرعين للسلام عليه والترحيب به ومصافحته ، وكان صاحب المقهى عبد العزيز يقوم بما يقوم به أصحابه وزملاؤه عند مرور الخطيب فيذهب للسلام عليه وتحيته والترحاب به إلا أنه كان يتلكأ لأنه كان خجولاً يخشى الخطيب لأنه يظن بأن الخطيب يعرف به معاقراً للخمر مدمناً على الشرب ، إلا أن الخطيب كان يقف معه كثيراً ويحدثه بلطف ويمزح معه ويسأله عن أحواله وصحته وما هو عليه ، لمعرفة الخطيب بأحوال الناس ولأنه كان متنوراً يحمل روح الدين الإسلامي الحقيقي والتسامح والبساطة مما زاد من احترام أهل المدينة له وارتفاع شأنه وعلو قدره في أعينهم ، إضافة إلى ذلك أنه كان يعتبر أحسن من يفتي ويخرج الحلول للمشاكل المستعصية والمعقدة حتى ذاع صيته وأشتهر لا في المدينة فقط وإنما في أغلب مدن العراق وقراه حيث كان الناس يأتون إليه من جميع أنحاء العراق يطلبون الفتوى في المسائل المستعصية لحلها وإعطاء الفتوى فيحلها لهم ويعطيهم الفتوى فيرجعون إلى أماكن سكناهم فرحين . وقد حدثني أحد المترددين إلى لبنان بأن أناس من لبنان قد أرسلوا معه إلى الخطيب مسائل مستعصية لحلها وإعطاء الفتوى فيها بعد أن تقطعت بهم السبل ولم يجدوا لهم حلاً في بلادهم ، فحلها وأفتى بها لهم ففرحوا بحله وفتواه بعد أن كانت مشكلة مستعصية لم يجدوا لها حلاً ، وكان الخطيب سريع البديهة بسيطاً طيباً كريماً لا يرد أحد في شيء يأخذ بالعوامل النفسية عند الفتوى محبوباً محترماً من قبل جميع أهالي المدينة حتى أن الرجل الأكبر والمتنفذ في العوائل اليهودية المتواجدة والساكنة في المدينة كان يسير خلف جنازة الخطيب بعد وفاته مع المشيعين وينتحب بصوت عالٍ مجهشاً بالبكاء والدموع تسيل من عينيه لتسامح الخطيب وارتفاع منزلته لدى أهل المدينة ، كما أن قسم من نساء المدينة قد شاركن في تشييع جنازته إلى مثواه الأخير وكن يسرن في مقدمة الجنازة مولولات صائحات باكيات تتقدمهن إحدى قريباته وهي شاعرة شعبية أو ما تسمى ( بالقوالة ) أي أنها تقول الكلام شعراً شعبياً في مناسبات العزاء وتسمى في المدينة ( العدادة ) وكانت تنشد أبياتاً مفادها أن الكثير من الناس يأتون للمشاركة في التشييع والتعزية وهم غرباء عن المدينة وتصعد الموقف وتقول أنهم يتحدثون بلغات لا يفهم منها شيء لأنها ليست لغة اهل المدينة التي يتحدثون بها أي أنهم أقوام غرباء وليسوا عرباً . وكان الخطيب يعرف بإدمان عبد العزيز إلا أنه كان يتعامل معه بلطف ولين وكان مما يقوله له لإقناعه بترك الخمر ومعاقرتها لو أن جميع من يشربون الخمر مثلك أي كما تشربه أنت بهدوء ودون تأثير وإضرار بالناس لما حرمه الله سبحانه وتعالى ولكن الذين كانوا يشربونه كانوا يقومون بتصرفات غريبة لأنه يذهب بعقولهم فيؤثروا على الآخرين وتحدث في بيوتهم المشاكل ويمنعهم من الصلاة فحرمه الله على المسلمين ، لذلك كان يدعو عبد العزيز إلى تركه بلهجته الودودة الطيبة دون إكراه وبملاطفة زائدة حتى جعل عبد العزيز يتخذ قراراً بترك الخمر دون رجعة ويتوب إلى الله توبةً خالصة ويقوم بأداء الصلاة في أوقاتها بقناعة تامة بحيث لا يفوته منها وقت ، لقد سمع السيد لطيفي بأن قريبه عبد العزيز قد ترك الخمر وأصبح يؤدي الصلوات الخمس بأوقاتها وأنه قد تاب إلى الله توبةً نصوح فقرر الذهاب إلى قريبه عبد العزيز ليكلمه في أمر هام كان يراوده ويشغل فكره ، إلا أن السيد لطيفي كان يخشى قريبه عبد العزيز ولا يستطيع أن يكلمه أو يفاتحه بما يشغل باله لذلك أخذ السيد لطيفي يمر من أمام مقهى عبد العزيز ذهاباً وإياباً عدة مرات ناظراً إلى قريبه عبد العزيز من طرف خفي دون أن يستطيع أن يحدثه بالأمر الذي يشغله ، لقد تنبه عبد العزيز إلى كثرة مرور السيد لطيفي من أمام المقهى وإلى رواحه ومجيئه فأدرك أن أمراً ما لدى السيد لطيفي يريد أن يقوله له أو أن هناك حاجة يريد أن يطلبها منه فناداه تعال ما عندك ؟ ماذا تريد ؟ مخاطباً إياه لقد رأيتك ماراً من أمام المقهى عدة مرات ذهاباً وإياباً وأضاف متسائلاً هل لك حاجة ؟ تبسم السيد لطيفي أولاً لكنه تلعثم في الكلام متلجلجاً لا يستطيع أن يعبر عما يريد أن يقوله إلا أن عبد العزيز طلب منه الإفصاح عما يريد ، فقال السيد لطيفي بوجل وتردد لقد سمعت بأنك قد تركت معاقرة الخمر وأصبحت تؤدي الصلوات الخمس بأوقاتها وإن هذا شيء يفرحه إلا أنه يريد له الخير أكثر لذلك جاء إليه يفاتحه ويعرض عليه شرب الطريقة منه كما هو شربها من شيخه أسعد لأنه يريده أن يصبح سيداً مثله فرد عليه عبد العزيز بلطف موضحاً أنه قد تاب حقاً ويأمل بمغفرة الله وعفوه وأنه يقوم الآن بما يطلبه الله منه متمسكاً بدينه الحنيف ، إلا أن السيد لطيفي تشجع أكثر وأعاد عليه ما طلبه منه أولاً بلغته المعروفة وحركاته التمثيلية مكرراً أن شرب الطريقة سيزيده خيراً وهذا ما يتمناه له لأنه قريبه ، فما كان من عبد العزيز إلا أن أنفجر به قائلاً ، سيد لطيفي أنت تعرف سابقاً أن قرّابة كاملة من العرق الخالص لا تسكرني يومياً ولم تجلب لي السعادة فهل تريد مني أن اقتنع بفائدة طريقتك التي لا تملأ طاسة صغيرة بعد أن توسوس عليها وإنها سوف تفيدني وتغير من حالي وتجلب لي السعادة ؟ أذهب ، أذهب دون رجعة ودعني أنا وربي إنه غفور رحيم ، رجع السيد لطيفي منكسفاً بعد أن طرده قريبه عبد العزيز لأنه لم يستطع أن يحقق ما أراده إذا كان يحلم أن يضم قريبه عبد العزيز إلى جماعته ، وكان الحزن ظاهراً بادياً على وجهه فأتجه إلى بيته مباشرةً تاركاً السوق ، دخل بيته فرأى عقرباً تسير في فناء الدار فأمسك بها وحملها بيده ظناً منه أنها سوف لن تلسعه بل أراد أن يجرب نفع الطريقة التي شربها من شيخه أسعد حيث بدا له شك بعد حديثه مع قريبه عبد العزيز في صحة ما يسير عليه ، أو ربما أراد أن يظهر أمام زوجته بأنه سيد حقاً راداً لنفسه اعتبارها بعد فشله في أقناع قريبه عبد العزيز بشرب الطريقة أو لربما أراد أن يمتحن نفسه ويجرب فائدة الطريقة التي شربها لأنه كان يعتقد بأن العقرب سوف لن تلسعه ما دام قد شرب الطريقة فما أحس إلا بلسع العقرب له في يده مسببةً له آلاماً حادة نتيجة لنفثها السم في يده ، فسارعت زوجته إلى ثقب الجلد من موضع اللسعة بأبرة خياطة وعصر موضع الثقب لإخراج السم مع الدم من موضع الثقب لتخفيف الألم ، إلا أن يده تورمت وأشتد عليه الألم يوماً كاملاً ، وجلس في بيته ولم يستطع الذهاب إلى المقهى ولما عاتبته زوجته متسائلة كيف تمكنت العقرب من لسع يده وهو السيد الذي يدعي بأن الأفاعي لا يمكنها أن تلدغه وأضافت مخاطبة إياه كيف تمكنت العقرب من لسع يدك وسببت لك كل هذا الألم وتورمت يدك من لسعتها ؟ أجابها السيد لطيفي متعللاً بأن العقرب التي لسعته كانت عقرب يهودية والعقرب اليهودية عقرب لا تؤتمن خائنة مما جعلها تلسع يده ، حينذاك أدركت زوجته أن ما تحملته معه طوال السنين الماضية من متاعب وما قاسته من العذاب لقاء الطريقة التي شربها من شيخه أسعد وقيامه بأحياء حلقات الذكر في داره أسبوعياً وما كان يرافقها من متاعب كثيرة لم يستحق كل ذلك العناء الذي بذلته ولا تلك التضحيات التي قدمتها دون فائدة وأن كل ذلك قد ذهب هبائاً منثورا .
(4)
أوصى السيد لطيفي أولاده حين أحس بقرب منيته، أن يشيع إلى قبره بالدفوف و الأعلام الخضراء، و أن يبنى فوق فقبره قبة كما هو حال الأضرحة و القباب المبنية فوق قبور الأولياء و الأتقياء و الصالحين، الذين يزورهم الناس و يتبركون بهم، معتقداً بأن الناس ستقوم بعد زمن بزيارة قبره و تتبرك فيه، و تشعل له الشموع، و تخضب جدران قبته من الداخل بالحناء و تشعل فيها البخور، و قد نفذ أولاده الوصية فشيعوه إلى مثواه الأخير بالدفوف و الأعلام مستعينين بمرددي المدائح و قصائد الذكر، و باشروا بعد إنقضاء أيام العزاء بفترة قصيرة ببناء غرفة مربعة الشكل حول القبر، ذات سقف مقبب، و كلفهم البناء مبلغاً من المال، فأرادوا أن يتوقفوا عن العمل و ترددوا كثيراً قبل إتمامه، إلا أن حبهم لأبيهم و تنفيذاً لوصيته جعلهم يكملون البناء، غير آبهين بالتكاليف، فقد بقى قبر السيد لطيفي مدة طويلة من الزمن تزيد على الثلاثين سنة لا يزار من أي من الناس حتى من قبل أولاده، و لكن بعد الإحتلال الأنكلوأميريكي للعراق، قامت جماعة من المتشددين دينياً بتفجير جميع المزارات و المراقد الموجودة في المدينة و هدمها، و منه القبة المبنية فوق قبر السيد لطيف، فأخبر شخص أحد أبناءه أن الغرفة التي بناها هو و أخوته فوق قبر والده قد فجرت و هدمت، فسأل الإبن الشخص الذي أخبره: هل أن أباه أصيب بأذى من جراء التفجير الذي حدث؟
فأجابه الشخص: إن التفجير لم ينل أباه بأذى و إن التفجير قد هدم الغرفة فقط
فقال الإبن: الحمد لله ما دام أبوه الذي شبع من الموت لم يصب بأذى فإن كل الذي حدث هين و بسيط، فاستغرب الشخص مما سمعه و غادر مبهوراً دون أن يعرف ما يقول
اترك تعليقا