كان الليل مقمرا صامتا، معلنا بداية فصل الشتاء، بخطوات متسارعة، دخل المقهى على حين غرة من صاحبها، توجه للزاوية اليسرى كعادته، جلس مسندا الكرسي إلى الحائط، كان يرغب كثيرا في أن يجلس برفقة رواية يعيش معها، ويغوص في أحداثها ناسيا الحياة وهمومها ومتاعبها، إلا أنه بعد مشهد اليوم، جال خاطره واستيقظت ذاكرته على صورة مفزعة، أَ بَعْدَ كل هذه السنين يأتي الماضي يجر حقائبه، بهذه الطريقة !
جاء النادل على غير المعهود، ليسألني عما سأطلبه، أحسست بأنه أعاد الجملة كثيرا حتى تمكنت من سماعها، واكتفيت برد مقتضب؛
- قهوة سوداء كالعادة. توحي بعدم رغبتي في الكلام.
تأمل النادل فيه مليا واستغرب لحالته، لطالما رآه متيقظا يقظا يقلب صفحات كتاب من الكتب، اليوم يدخل بمزاج مختلف، وخاطر جائل…
لم يتأخر النادل حتى عاد وفي يده فنجان القهوة، لينزله على الطاولة، أخذ كرسيا وجلس أمامه مشدوها. المقهى فارغ تماما من الزبائن، سوى العم حسن، الرجل الأصلع، ذو اللحية الكثيفة، صاحب المقهى، وهو يقوم بحساب مصاريف اليوم.
ظل النادل مترددا، في الحديث معه، كان دائما ما يُقبل عليه بوجهه البشوش، المفعم بالأمل، لكن اليوم ! وجه تعلوه الكآبة…
من دون مقدمات، والحسرة تلف كلامه …
– هل تعرف لقد كان خالد مجتهدا مواظبا خلوقا، كان كل همه العلم والتحصيل الدراسي، درسنا معا وتشاركنا كل لحظاتنا، بحلوها ومرها، بجدها وهزلها، بشتاءها وصيفها، هكذا كنا، إلى أن تخرجنا من الجامعة، تغيرت الأحوال، وقلّ تواصلنا، اشتغلنا بعد مدة طويلة من بحثنا عن عمل يليق بتحصيلنا ومستوانا الدراسي، إلى أن ولجنا شركة، أنا كعامل عادي، وخالد كحارس ليلي..كان توقيته مغايرا، يقضي نصف اليوم في العمل، والنصف الآخر في النوم، من شدة التعب. بينما أقضي ثماني ساعات.
كنا بطموحنا نكسر كل الصعاب ونمهد كل جبل كي يكون طريقا مفروشا، لكن عاما ونصف كان كافيا بأن يَقلب موازين حياتنا، حينما اصطدمنا بواقع قاس، لم يعترف بأحلامنا.
مرت ثمانية أشهر، تغير كل شيء، بعدما كان خالد مفعما بالأمل، مبتسما رغم الآلام، انبطح الحزن على جبينه، وطفت تجاعيد اليأس، ابتسامة الأمل تلاشت، وظهرت أثار الإرهاق المر، بعدما أمره رئيسه في العمل، أن يضيف ثلاث ساعات على التوقيت اليومي. واستجاب لطلبه هربا من شبح البطالة، الذي كان ينتظره… لقد كان يعمل هربا من أصابع المحيط وهي تشير إليه؛
“هذا هو الذي أفنى عمره في الدراسة، وبعد ذلك أصبح عالة في منزل أسرته”..
إن الإنسان قد يتجاوز كثيرا، وقد يتغاضى عن كثير، هروبا من ضوضاء المحيط والنظرات القاتلة، لكن قد يأتي يوم وتكون القطرة سببا في فيضان مجهولة عواقبه …
جاء الشهر التاسع وتمخض عنه صراع كبير، نتج عنه الطرد من العمل. التحقتُ في الصباح، فسمعت بالخبر وقد انتشر كالنار في الهشيم، صديقك خالد قد أفرغ جام غضبه وتوتره في رئيسه، بعدما طلب منه أن ينظف المراحيض، بالإضافة إلى عمله كحارس. بحثت عنه بعد ذلك في كل مكان، في منزله الذي كان يكتريه، بعيدا عن أسرته، ولم أجده، بل وقد اتصلت به مِرارا ولم يرد، إلى أن شاع في الشركة خبر موته، بسبب ركوبه قوارب الموت في محاولة من الفرار خارج البلاد، في ليلة شديدة المطر. مرت أعوام وأعوام، حتى اقتنعت بأن خالدا قد مات فعلا، وبقي خالدا في ذاكرتي.
حتى جاء اليوم، ولفت انتباهي شخص يأكل بشراهة من حاويات القمامة، أشعت الشعر، ملبّد اللحية، كث الشارب، متجهم الوجه، ومرقع الثياب، تأملته مليا فإذ به يوقظ ذاكرتي ويزيل الغبار عن الاسم الخالد فيها. بعد الشهور المنفرطة، وتوالي السنين، يأتي الحدث الذي ينتشل صورة صديقي ! أرمقه مجددا، وقد دارت به الدنيا دورتها !
هل تعلم ! رغم منظره المنفر، والمبعث على القرف، زيادة على الروائح المنبعثة منه، اقتربت منه وحاولت أن أمد يدي لمصافحته، بل لعناقه، فلم يعرنِ اهتماما، وواصل أكله بشراهة أكثر، غير مكثرت بمن حوله…
استغرقت في الحديث، والنادل واجم أمامي، تصبب جسده عرقا، ولم يستطع تحضير عبارة يرد بها عما سمعه، إلى أن نادى عليه “العم حسن” لإقفال المقهى. بقي السائل الأسود الداكن باردا في مكانه، ولملمت نفسي متوجها إلى بيتي وعينيا لا تفارقهما صورة خالد..
فريد الخمال
طنجة/ المغرب
قاص من مواليد مدينة طنجة، المغرب، وأستاذ بالتعليم العمومي.
خريج المدرسة العليا للأساتذة بتطوان.
شارك بقصتين في المجموعة القصصية “رؤى القلب” صدرت عن دار الشهد المصرية. سنة2017م.
شارك بقصة واحدة ضمن المجموعة القصصية “على حافة السرد” صدرت عن دار جولدن بوك المصرية.2018م. (مسابقة)
شارك بقصتين في المجموعة القصصية “طريق اللاعودة”، صدرت عن دار كاريزما المصرية، سنة 2019م.
شارك بقصتين في المجموعة القصصية “رعب 12” صدرت عن دار المعرفة المصرية، سنة 2019م. (مسابقة) .
اترك تعليقا