لكل عمل فني قوانين وضوابط تحكمه، إذ ليس هناك عمل مرموق خالي من ضوابط ومعايير تؤطره يصمم طبقا لها، بل جمالية ورونقة الأعمال الناجحة والهادفة تكمن في ضوابطها وشروطها والقواعد التي تنتج وفقا لها، كما هو الحال بالنسبة للنص كيفما كان جنسه وخطابه.
فالنص كذلك، يسيج بمجموعة من المعايير والشروط والآليات، التي يقتفيها الكاتب ليبدع وينتج نصا ما، كما أن هذه المعايير تضفي على النص جمالية في الإبداع ورونقة في الإنتاج، فيصبح النص ذا خطاب مفهوم وهادف، أما تلك الشروط فيجب أن تكون مترابطة ومتماسكة فيما بينها، فإذا اختل شرط من شروطها يكون النص مختل التماسك والتناسق بين أجزائه، بالتالي لن يصل النص على هذه الشاكلة إلى درجة المقبولية، لأن قيمة النصوص تكمن في اتساقها وانسجامها، بيد أن هناك ضوابط ومعايير متعلقة بالنص، وأخرى منوطة بالمتلقي أو القارئ، من بينها المقبولية، التي تشكل موضوع مقالتنا هاته، وللإشارة فالمقبولية هي أحد شروط النصية التي اعتمدها بورغراند، وبالتالي فنحن أمام الشروط المنتجة للنص، كما العناصر المساهمة في الانسجام، كعنوان عريض، وطبعا كما تمت الإشارة فالمتلقي هو الذي يقوم بالكشف عن انسجام النصوص، من خلال عدة عمليات محددة، وعليه فالرهان الذي ننحو نحو تحقيقه، هو إظهار كيف يمكن للمقبولية المساهمة في انسجام النصوص، كرهان أول، ثم بيان دور المقبولية في تشكيل النصوص وجعلها للنصوص نصوصا.
نعني بالمقبولية Acceptability قبول نص ورفض آخر بناء على مجموعة من المعايير والقواعد والمرتكزات والأسس اللغوية واللسانية والنصية، باعتبار المتلقي في هذا المقام هو الذي يحكم على مدى مقبولية النص وسلامته من حيث اللغة والتركيب والدلالة وغيرها من العناصر التي تجعل من النصوص سليمة ومقبولة.
هذا يعني أن فكرة التقبلية تتجه صوب المخاطب، أي إكسابه معرفة جديدة. أو قيامه بالتعاون لتحقيق خطة ما، ويستجيب هذا الاتجاه لعوامل من مثل نوع النص، والمقام الثقافي والاجتماعي، ومرغوبية الأهداف.
في هذا المقام سنعرض لشروط المقبولية، التي يرى العديد من القراء أن رواية الخبز الحافي قد خلت منها، وهي سبب رفضها، الذي سيتحول فيما بعد لرفض صار للكاتب من قبل القارئ والكاتب نفسه أيضا:
– الاتساق والانسجام:
يسهم الاتساق في ضمان التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة للنص، عبر مجموعة من الوسائل اللغوية، فتكسب متتاليات النص وحدة عضوية، تساعد المتلقي على تقبل النص إلى جانب الانسجام، والمقصود هنا ذلك المنطق الذي يخضع له الخطاب أو النص، والذي بدوره – المنطق – يخضع لمجموعة من القوانين والعلاقات التي تحكم المتتاليات النصية، حيث تسهم في تشكيل وحدة موضوعية للنص وفق منطق ما يوجه المتلقين حتى يتقبل النص، ويتأثر لتصل إليه رسالة الكاتب.
وبالعودة لنص شكري، أول ما يطالعنا تلك العبارات التي دون العربية بكثير وفوق العامية بقليل كما أشار إلى ذلك أنس سعيد محمد في إحدى مقالاته واصفا اللغة الذي كتب بها محمد شكري بلغة مهلهلة وركيكة للغاية تشتت من السرد وتماسكه، مما يجعل القارئ للنص – قراءة محايدة دون اعتبار كاتبه – يعتقد أن الرواية عمل مبتدئ لطفل في مراحله الأولى، من قبيل:
– سآكل الدجاج بالجلبانة.
– تعشيت دجاجا بالبصل والزبيب واللوز.
– ها هو الآن ق حضر كوجبة الكرشة.
– احلف أني الآن شبعان.
ويعد هذا العامل اللغوي السبب العلمي لفرض الرواية بأن تدرج ضمن المقرر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فإدارة الجامعة رفضتها لسبب لغوي في المقام الأول، مما جعل نصوصها غير متسقة الشيء الذي أثر على هذه الأخيرة حتى على مستوى الانسجام، الذي يحاول أن يبنيه المتلقي رغم اللغة المبتذلة، التي تجعل من الرواية كما قال أنس سعيد محمد في مقاله تبدو كالمجموعة القصصية.
– مراعاة أفق انتظار القارئ:
أفق الانتظار، مصطلح يشير إلى مجموعة من الاحتمالات الثقافية والاجتماعية الموجهة لاستجابة المتلقي والقارئ، بهذا يظهر أن أفق الانتظار شرط جوهري لدى المؤلف والقارئ معا، إذ أن الأول يسعى به لبناء نصه لكي يرضي جمهوره، وهذا الأخير – الجمهور – يتخذه أحد مقاييس قبول النص أو رفضه، حيث أن المتلقي ينتظر من المنتج نتاجا معينا له صورة وإطار ذو خصائص وتقاليد فنية محددة ترسخت في ذهنه سابقا، انطلاقا من تجاربه وخلفيته السابقة، ذلك أن النص في هذه الحالة يظل معلقا إلى حين أن يلقاه جمهوره، فإذا وافق أفق انتظاره، اتسم هذا النص بالمقبولية.
في البداية سنشرع بتقديم العناصر التي تشكل أفق الانتظار التي من خلالها يتم تشكيل أفق الانتظار:
أولها الخلفية الأدبية واللغوية والفنية، وهي التي قلنا جعلت العديد من الكتاب ينادون برفض الكاتب “محمد شكري”، بعض أن رفضوا النص جملة وتفصيلا، بسبب أن اللغة التي يجب أن تكتب بها الرواية يجب أن تكون لغة تخيلية راقية، وحتى وإن استدعى الأمر إدخال بعض العبارات التي تنتمي للعامية، على سبيل الإيهام بالواقعية.
ثانيا، الخلفية الدينية والعقدية والكونية، أول ما يمكننا الحديث عنه هو مسألة الجرأة، الحاضرة بقوة في الألفاظ النابية المستعملة، والصيغ والعبارات الجارحة وكما وصفت بالخادشة للحياء، وكذلك مسألة الجنس، لكن النقاد في العادة لا يآخذون الرواية على طرقها أو تضمنها لتيمة الجنس، فكثير هي الروايات التي جعلت من هذه التيمة أحد موضوعاتها، لمناقشتها وتحليل الجوانب النفسية المتعلقة بهذه التيمة، ومحاولة رسم الواقع المتعلق بالممارسات الجنسية في قوالب فنية تخيلية، لكن لا يجب أن تخرج هذه الجرأة عن الحدود الكونية إلى الصدامية.
ثالثا، الخلفية الاجتماعية والأخلاقية، نجد أن الألفاظ المستعملة في السب والقذف تنافي مسألة العلاقة بين الأب والإبن، التي صورها الكاتب في طابع العنف، فرغم أن مسألة المحافظة الأخلاقية قد لا تطبع المتلقين عامة، إلا أنها تشكل إلى جانب كل ما ذكر ركاما وخلفية اجتماعية وأخلاقية من شأنها توجيه أفق الانتظار إلى اعتبار مثل هذه الألفاظ غير مرغوبة، هذه الخلفيات الايديولوجية والعقدية وغيرها من التجارب الشخصية، والتراكمات الثقافية هي التي تشكل في مجموعها أفق الانتظار لدى المتلقي حول نص ما.
– الإضافة والفائدة:
المقصود بها تقديم النص إفادة جديدة للمتلقي، بحيث يكون النص ذا نفع للمتلقي مساعدا هذا الأخير في الرقي بذوقه الأدبي والفني، حيث إذا لم تكن هناك فائدة حتما ستكون الاستجابة هنا لهذا النص، هي الخيبة وهي عكس الرضا، حيث لا تتطابق الكتابة مع ما ينتظره المتلقي وبالتالي يخالف أفق انتظاره، وهو ما تحصل لدى العديد من النقاد الذي عارضوا الرواية، وكذا الذين رفضوا تدريسها في الجامعة الأمريكية، وذلك بدعوى أنها لا تقدم أي فائدة جمالية فنية، فهي سجل صادم وجنسي فارغ من أي تخييل وأدبية، وفي المقام يمكن ذكر الاستجابات الأخرى وهي الرضا، وهي عندما يصل المتلقي إلى أٌقصى درجات التفاعل مع النص لأنه وافق أفق انتظاره، ثم الاستجابة الأخيرة، وهي التغيير وهنا بإمكان الكاتب أن يغير من أفق انتظار المتلقي بفعل انفتاح أفق انتظاره كما أشرنا سابقا.
في النهاية، محاولة تمحيص شروط المقبولية في رواية الخبز الحافي، نجد أن أهم شروطها وهو الاتساق والانسجام ثم مراعاة أفق الانتظار، لم يتحققا بالنسبة لعدد من النقاد والدارسين ومن بينهم من رفضوها أن تدرج في المقرر بالجامعة الأمريكية، على اعتبار أن هذا النص لا يتسم بالمقبولية وبالتالي لا يعتبر نصا، طبعا بالاحتكام للمعايير النصية التي جاء بها بورغراند والتي من بينها شرط المقبولية. وبهذا يمكننا أن ننهي هذه الورقة بالتساؤل عن مكانة حرية التعبير لدى الفنان والمبدع في ظ هذه القيود.
زكرياء طاهيري – سيدي قاسم
اترك تعليقا