زهير القريني – مدينة الرباط
تُعد الفلسفة الوسيطة من أهم المحطات التي عرفتها الفلسفة وأكثرها إشكالًا فكريًا، خاصة وأن هذه المرحلة، أو إن صح التعبير فلسفة هذه المرحلة، تخبطت في العديد من الإشكاليات سواء على المستوى الوجودي، اللاهوتي، أو الميتافيزيقي. ولعل أبرز قضية عالجتها الفلسفة الوسيطة، وخاصة الإسلامية منها، هي علاقة الدين بالفلسفة، علاقة الحكمة بالشريعة. وقبل الحديث عن الفلسفة الإسلامية، لابد من الإشارة إلى بعض المؤرخين الذين يشككون في وجود فلسفة إسلامية، بدعوى أن الجنس الآري غير قادر على إدراك المعرفة، وهو عقل تفريقي وليس تجميعي. ومن هنا، نحن كباحثين نشكك بدورنا في وجود فلسفة إسلامية. ومنه، يمكننا بسط الإشكالات التالية: هل هناك فلسفة إسلامية؟ وإن كانت، أين تكمن أصالتها؟
بداية، سوف نبحث في وجود فلسفة إسلامية، ومن ثم نبين مظاهر أصالتها لدحض رؤى المستشرقين المتعالية على هذه الفلسفة. الجميع يعلم أن الفلسفة، بشكل عام، ظهرت بشكل فعلي في بلاد اليونان، وأقولها وأسطّر عليها، ظهرت بشكل فعلي، أي أنها كانت موجودة قبل اليونانيين بشكل محتشم، إلا أنها في اليونان وجدت الأرض الخصبة، وتكاملت شروط ظهورها في هذه البلاد. ولعل من أهم العوامل كان الحرية، حيث عالجت الفلسفة موضوعات كثيرة منها الأخلاق، الميتافيزيقا، علم الوجود، المنطق، علم الجمال، وغيرها من المواضيع المعروفة في الفلسفة اليونانية.
بعد هذه المرحلة، سوف نعرج على المرحلة التي تهمنا، وهي المرحلة الوسيطة. من المؤكد أن صدى الفلسفة اليونانية وتأثيرها سوف يبقى مستمرًا أيضًا في هذه الفلسفة، وتشمل هذه الفلسفة فلسفات عدة، أهمها الفلسفة الإسلامية، الفلسفة المسيحية، واليهودية.
بداية، لا يمكننا بتاتًا الحديث عن فلسفة وسيطة إجمالًا، وإسلامية خاصة، دون الحديث عن العلاقة بين الفلسفة والدين. هذه القضية التي لم تعالجها الفلسفة اليونانية، وهذا سبب كافٍ للجزم بوجود فلسفة إسلامية أبدعت وعالجت مواضيع فلسفية لم تكن مطروحة سابقًا، فضلًا عن علم الكلام الذي يكشف لنا عن مدى أصالة الفلسفة الإسلامية.
لذلك، سوف نبين أصالة الفلسفة الإسلامية من خلال ثلاث موضوعات (نقط) أساسية، وهي علاقة الدين بالفلسفة، ثم علم الكلام، وأخيرًا لابد من الغوص في إبداعات بعض الفلاسفة المسلمين.
كما ذكرنا سلفًا، هناك فلسفة عربية إسلامية أصيلة، رغم النظرة السلبية للمستشرقين تجاه هذه الفلسفة، ووصفها بأنها فلسفة يونانية خالصة مترجمة لها، وليتها ترجمة سليمة، بل ترجمة مشوهة. ولنا عودة لتحليل هذه الرؤية ومجادلاتها بالأدلة والبراهين. ولعل أبرز قضية اهتمت بها الفلسفة الإسلامية هي علاقة الدين بالفلسفة؛ علاقة اتصال أم انفصال، ترابط أم تنافر، معتمدين في ذلك على الفيلسوف ابن رشد، الذي يعد من أبرز الفلاسفة الذين عالجوا قضية علاقة الحكمة بالشريعة أو الفلسفة بالدين في كتابه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”.
يبدأ ابن رشد كتابه بسؤال غاية في الأهمية، وهو: هل أوجب الشرع الفلسفة؟ ويجيب ابن رشد بالعديد من الآيات الكريمة التي تحث على التأمل والنظر في المصنوعات قصد معرفة الصانع، كقوله تعالى: “فاعتبروا يا أولي الأبصار”. وهذا نص صريح على وجوب استعمال القياس العقلي ، هكذا بين ابن رشد أن الشرع لم يحرم الفلسفة، بل أوجبها. وآية أخرى يقول فيها الله تعالى: “أوَلم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء”. وهذه الآية واضحة من الله تعالى سبحانه إلى الناس أجمعين، للتفكر والتأمل والاعتبار في جميع الموجودات.
هناك العديد من الآيات التي لا تعد ولا تحصى التي تدعو الناس إلى ضرورة التأمل والتفكر في الموجودات. إلى حد الآن بينا أن الشرع أوجب الفلسفة، أي لا تضاد ولا تنافر ولا تعارض بين الدين والفلسفة، كما بين ذلك ابن رشد في كتابه “فصل المقال”. يقول ابن رشد: “إذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه”. يستفاد من قول ابن رشد أن الشرع أوجب الفلسفة والتأمل في الموجودات قصد استنباط المجهول من المعلوم، وبعبارة أخرى، استنباط معرفة الصانع من المخلوقات. وبكل بساطة، فالفلسفة في هذا المقام هي النظر في الموجودات قصد الوصول إلى حقيقة الصانع.
يشير ابن رشد إلى أنه من أراد أن يبرهن على الله تعالى من خلال مخلوقاته، لابد أن يعرف أنواع البرهان، أي القياس. ويقول في موضع آخر: “وإذا كانت هذه الشريعة حقًا داعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإننا معشر المسلمين نعلم على قطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”.
كخلاصة جزئية، عالج الفيلسوف والمعلم الثاني ابن رشد قضية غاية في الأهمية تتمحور حول علاقة الفلسفة بالحكمة، علاقة المعقول بالمنقول، ليخلص في النهاية إلى أن الحق الشرعي يوافق الحق الفلسفي، ومنه لا تعارض بين الدين والفلسفة.
وكإشارة فإن موضوعنا هذا ذو رؤيتين، رؤية ذات بعد شمولي نحاول من خلالها بيان أصالة الفلسفة الإسلامية في مواجهة الانتقادات التي تعرضت لها، ورؤية مركزة نحاول من خلالها بيان بعض إبداعات الفلاسفة المسلمين على وجه الخصوص. يبقى هدفنا الأول والأخير هو البرهان على وجود فلسفة إسلامية أصيلة، فضلًا عن علم الكلام الذي يعد من أبرز مظاهر أصالة الفلسفة الإسلامية ومن أبرز جوانب إبداعها، حتى أن المستشرقين اعترفوا بإبداع العرب في هذا المجال، أي علم الكلام. لدرجة أن المؤرخ رينان اعتبر علم الكلام هو الفلسفة الإسلامية الحقيقية.
يشير علم الكلام إلى النظر في المسائل العقدية أو المسائل الدينية، والبحث في البراهين العقلية والحجاج لإثبات المسائل العقدية. لهذا العلم أهمية بالغة في مناقشة القضايا الشرعية والعقيدة الإسلامية، وكانت وراء ظهوره مجموعة من العوامل سواء كانت داخلية أو خارجية. داخلية منها القرآن الكريم باعتباره مركزًا للبحث في هذا العلم، وكذلك مسألة الإمامة أو الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
بمجمل القول، يمكن اعتبار علم الكلام من أهم مظاهر أصالة الفلسفة الإسلامية، خاصة والعربية عامة. حتى الآن ذكرنا قضية علاقة الدين بالفلسفة التي عالجها الفيلسوف بأدلة برهانية عقلية، أثبتت توافق الدين بالفلسفة. النقطة الثانية هي علم الكلام كجانب من جوانب الإبداعية داخل الفلسفة الإسلامية. ولابد من الحديث عن بعض الفلاسفة المسلمين وأفكارهم التي تعبر عن أصالة الفلسفة الإسلامية شكلًا ومضمونًا.
أولهما الكندي، باعتباره أول فلاسفة الإسلام وفيلسوف عصره بمعنى الكلمة. وعلى غرار الفيلسوف ابن رشد، ناقش الكندي أيضًا العلاقة بين الدين والفلسفة. فهو يرى أن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يُفهم بالمقاييس العقلية كما ورد في القرآن الكريم.
فضلًا عن الفارابي الذي ناقش علاقة اللغة بالمنطق. فقط هذه إشارات لبعض الفلاسفة المسلمين، وهناك الكثير منهم، ولكن يضيق الوقت لذكرهم جميعًا. كالغزالي وكتابه “تهافت الفلاسفة” محورًا للنقاش الفلسفي، ومنهجه الشكي الذي يقال إن ديكارت استفاد منه، وكذلك حديث الغزالي عن العقل ورفضه للمسائل الميتافيزيقية هو نفس الطرح الذي أخذه الفيلسوف الألماني كانط في كتابه “نقد العقل الخالص”.
ومنه، كان لفلاسفة المسلمين تأثير واضح في الفلسفة الحديثة والمعاصرة. ذكرنا سلفًا أننا سوف نتحدث عن رؤية المستشرقين لهذه الفلسفة ونجادلهم بالأدلة. فرؤيتهم كانت تتمحور حول فكرة واحدة، وهي أن العقل العربي قاصر عن إدراك المعرفة.
من أبرز مواقفهم، الموقف الأول المتجلي في أن دور المسلمين اقتصر على نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية، وشكلوا وساطة. إذ يقول المستشرق الهولندي دي بور: “ظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام فلسفة انتخابية، عمادها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق، فلم تتميز تميزًا يُذكر عن الفلسفة التي سبقتها، ولم تفتح مشكلات جديدة، ولا هي استقلت بجديد فيما حاولته من معالجة المشاكل القديمة”. فضلًا عن قولهم بأن الفلسفة الإسلامية ينبغي البحث عنها في الفرق الكلامية.
وختاما بعد مناقشة هدا الموضوع الذي كان تحت عنون اصالة الفلسفة الإسلامية خلصنا في الأخير أن هناك فلسفة إسلامية أصيلة وهذا القول ليس من باب الرأي والصدفة بل توصلتا إليه بعدا بحث عميق ومركز في كتب الفلاسفة المسلمين والمؤرخين.
اترك تعليقا