رواية “الموريسكى” هي في الأصل امتداد تاريخي لمشروع الكاتب المغربي حسن أوريد، مشروع إعادة إحياء وبعث التاريخ الإسلامي في الأندلس، لما يحمله من دلالات أعمق لذاكرة العرب و المسلمين، في استشراف المستقبل و تجاوز نكبات الحاضر، فالرواية قراءة تاريخية مثخنة بالأحداث التي تسافر بنا في رحلة من داخل الأندلس(إسبانيا و البرتغال) ومرورا ببعض الدول المختلفة(المغرب) من خلال وجهة نظر أحد الأشخاص المعاصرين لتلك الفترة.
تبدأ الرواية في منتصف القرن الخامس عشر بعد سقوط الحضارة الإسلامية في الأندلس، حيث نتتبع خطوات أحد الأشخاص المنتمين لجماعة الموريسكين، و هم من تبقى من طوائف المسلمين في الأندلس بعد سقوطها، حيث أكرهوا على تغيير دينهم الإسلام من طرف محاكم التفتيش التي قامت في الأصل على تصفية الجزيرة الايبيرية من المسلمين و اليهود، و الإبقاء فقط على العنصر الايبيري المسيحي، فتعرضوا بذلك إلى مضايقات وترهيب، تعذيب وترحيل، حتى إنهم اخفوا إسلامهم سرا ويحملون أسامى مسلمة ولكنهم في اضطرار لتخليهم عن عقيدتهم وحتى تغيير أسمائهم ذات الهوية المسلمة إلى أسامى أوروبية، كذلك لا يجاهرون بصلواتهم وعقديتهم الإسلامية حتى لا يقعوا تحت طائلة العقاب.
من هذا الداء العميق ومن هذه التجربة القاسية، انطلق الكاتب المغربي حسن أوريد ليروي للقارئ قصة أقلية مهمشة من بقايا الأندلس في إسبانيا، مستنداً في ذلك على سيرة الفقيه أحمد شهاب الدين أفوقاي الموريسكي المسلم الذي كابد ماعاشته هذه الأقلية من ظلم واضطهاد هناك. فيرحل بالقارئ مع بطل روايته من بلاده التي هجر منها فاراً بعقيدته بعد أن تم التضييق عليه وعلى أبناء قبيلته، التنكيل بهم، إذاقتهم أشد أنواع التعذيب والقتل و ترحيلهم خارج أرض وطنهم لا لشيء سوى لأنهم لا يحملون نفس الديانة و المعتقدات، إلى حيث صار موطنه الجديد، الموطن الذي حلم أن يمارس فيه شعائر دينه بكل حرية وكرامة، إلى المغرب.
فالكاتب أوريد يتناول سيرة العديد من الشخصيات وليست شخصية واحدة، فمثلا نجده يتحدث أيضا عن شخصيات (بيدرو) أو (أحمد) أو (شهاب الدين) وفى المجمل هاته الشخصيات مهما اختلفت في الثقافة و الدين و الانتماء العرقي، إلا أن الثلاثة أسامى لشخص واحد ينتمى لفئة الموريسكين، لهم واحد و مشكل واحد ومصير واحد، ولذلك تم تسمية الرواية بهذا الاسم حيث (الموريسكى) ترمز إلى تلك الشخصية التي تتناولها الرواية.
إن ما تعيشه الشخصيات في الرواية مع تلك الشخصية فهي مأساة حقيقية تتوزع بين مراحل مختلفة و ثلاثة اسامى و مدن مختلفة يزورها بطل الرواية ما بين غرناطة و أشبيلية و طنجة و أمستردام و باريس، وذلك من خلال تتبع قصة شهاب الدين خلال محطات حياته، بدءً من طفولته حين كان يُعلمه أبوه شعائر الإسلام خفية، والإقصاء الذي عانوه في بلادهم باسم القانون الخاضع للكنيسة؛ فرضوا عليهم الإنسلاخ من هويتهم والتخلي عن تقاليدهم، لباسهم، رقصاتهم وحتى أكلهم، إلى أن هُجّروا عنوة خارج أرضهم..
فقدَ الموريسكي عائلته بأكملها فأصبح غريبا في بلده، هزّ الرحال للمغرب آملا أن يجد ملاذا آمنا عند إخوانه المسلمين، بفضل إتقانه للقشتالية عيِّن مترجما للسلطان المنصور الذهبي، فتسنى له أن يتابع الحياة في البلاط بمراكش والمشهد السياسي بالمغرب عن كثب إبّان الدولة السعدية، ثم واكب تمزق البلاد بعد وفاة السلطان بين أبنائه الثلاثة: زيدان، المامون وأبو فارس، وبذلك بدأ سقوط الدولة السعدية، من خلال الوضع السياسي والإيديولوجي للبلاد من خلال أعين الراوي، الخيانات المتكررة بين أبناء السلطان واستنجادهم بقوى خارجية كالأتراك، الإسبان أو الانجليز لمحاربة بعضهم البعض، توظيف الدين وملكات الخطابة للوصول للسلطة، ناهيك عن مظاهر بطش السلطة والعنف ونهب للثروات..
وانتقل الكاتب حسن أوريد بعد ذلك لسلا بعد أن توصل الموريسكي بخِطاب من صديقه هناك يشكو له النزاعات بين الهورناشيروس، وهم مواطنون إسبان طردوا قبل الموريسكيين وقراصنة أثرياء يسكنون لْقصبة، وبين الموريسكيين الجدد الذين كانوا حرفيين عانوا ضُعف الحال ويقطنون لْمدينة، حكى الكاتب حيتيات الوضع، النزاعات التي نشأت بين الطرفين إلى جانب المورو(المغاربة قديما)، مبادرات بعض الزعما لتحقيق السلم وتدخل الإنجليز والإسبان للاستفادة من الوضع المكهرب، ليستقر الموريسكي في تونس بعد الستين من عمره، وقد كان: أحمد ابن قاسم الحجري الغرناطي الأندلسي الملقب بشهاب الدين أفوقاي، إلا أنه تطور وكسب خبرة كبيرة، وتغيرت أفكاره وقناعاته مع توالي الأحداث والأشخاص الذين قابلهم كان مثيرا، تساؤله عن الهوية، نظرته عن الإسلام والمسلمين، الدين، التمرد والإذعان..ليخلص في النهاية إلى إن قضية المورسكيين لن تحل أبدا.
يوضح الكاتب في الرواية جانبا هاما من خلاله الطرق المختلفة لاستخدام الحكام لرجال الدين كساتر للمصالح الشخصية والسيطرة على المجتمعات دون الرجوع إلى قيود أو أصول وقواعد الأديان وقد أستشهد الكاتب بذلك في موقف تعامل الكنيسة مع (الموريسكين) وكذلك موقف ملك المغرب والبذخ المحيط به وبحاشيته بذلك الوقت.
لم تكن هذه الرواية مجرد تأريخ لحقبة زمنية معينة، أو مجرد نقل لتاريخ ولى منذ زمن بعيد، بل كانت دعوة من الكاتب للتأمل في تلك الأحداث الرهيبة التي مازالت حية إلى زمننا هذا بشخصيات جديدة وأحداث مختلفة ظاهرياً لا غير، من صراع حول السلطة أعمى عين الابن عن أبيه والأخ عن أخيه، استغلال الدين والمعتقدات لخدمة المصالح السياسية، حرب الطوائف، النبذ العرقي وتصنيف أبناء نفس الوطن حسب أصولهم وعرقهم وقد أدرج في هذا الصدد الصراع الأمازيغي-العربي الذي لازال قائماً إلى الآن في المغرب وغيره.
فلو استبدلنا إسم الرواية من “الموريسكي الأخير” إلى “الفلسطيني الأخير” لاستقامت الرواية أيضًا ولم يتبدل فيها سوى الأسماء والتواريخ، فقد هُجر الفلسطيني كما هُجر الموريسكي من قبل من أرضه، ذهب هنا وهناك ظنًا منه أن هناك من سيساعده من أبناء دينه ولكن لم يكن يدري أن أبناء دينه يتناحرون فيما بينهم.
لو استبدلنا بلاد المورو ببلاد الشام ما أخطأنا، وكيف نخطأ والأمر سيان، هناك كانوا يتقاتلون للوصول للسلطة لا يهتم أحد برعيته المهم السلطة ولا شيء سواها حتى لو مات الناس من الخوف والجوع، كما نرى الآن يتقاتلون ويقتلون الأبرياء فقط من أجل السلطة ولم ينس هؤلاء أن يستغلوا معاناة الفلسطينيين كي يحققوا المكاسب السياسية دون النظر لمأساة شعب وقضية أمة المهم السلطة كما فعل سلاطين المورو كما كان يطلق عليهم الموريسكيون.
عبد اللطيف ضمير – مدينة الجديدة
اترك تعليقا