- أزمة التيه في النقد الاجتماعي المغربي، الخيال الأسلوبي والواقع.
على غرار رواية التيه لعبد الرحمان منيف، ورواية خرائط التيه لبثينة العيسى، تطالعنا رواية دروب التيه، للروائي المغربي الحسين أيت بها، محملة بمرجعيات وخلفيات المجتمع المغربي ناقدا له بنقد جس نبضه، بحيث يكشف عن الكامن فيه بدقة عالية، ويضَمِّن بين ثنايا عباراته المسكوت عنه، في موضوعة التيه والضياع، بأسلوب ربما فاق باقي الروايات التي عالجت هذا الموضوع برؤى مختلفة، تتصل بعدة قضايا: الفقر والجهل والأمية، والهجرة بكافة أنواعها، والانحراف الذي يشهده شباب المجتمع.. والحرمان وضياع وتلاشي الطفولة الذي يؤدي في الحين إلى نهاية الشباب، وفقدان بوصلة الحياة: وإليكم مقتطف من الرواية : ” ابن البلدة المسكين ، قرية المجانين المغضوب عليها، يصاحبها جفاف طيلة السنة يحمل معه ذكراه الخضراء اليانعة ، طفولة الأحلام الوردية تخضر كاخضرار الساقية وهي تحمل بقايا الطين والتراب الندي الذي لطالما تمرغ فيه والأوحال جزء من كيانه ورأسماله، وهو الان في نفس الأمكنة والروائح تملأ أنفه، رائحة الطين والقصب، وعبق حياة البادية وروح إيقاعها يدب في عروقه ، بينما نسيمها الفياح يعطر سماء وجوده، فإذا أحس بالتعب افترش التراب وعندما يشعر بالبرد يلتحف وريقات القصب.” (1)
يحول الكاتب هنا روايته من مقاطع سردية متعددة إلى لوحات سرمدية واقعية نقدية لغوية امتزج فيها نقده بفنه، من النقش على الحجر المجموعة القصصية التي أراد فيها اكتشاف الأسلوب ومراودة أولى حروفه ليكتب النص السردي من خلال قراءاته المتعددة في أهم ما كتب فيه في المغرب وخارجه، لتُدَوَّن التجربة نقدا ودراسة في سرديات معاصرة، التي من خلالها سيكتب رواية هواجس الضياع، التي تعالج شخصيات مجتمعية منسية، وتسلط الضوء عليها، وتنقدها من كل النواحي، سيتطور إذن أسلوب السرد ليبلغ قمة ما صقل له من سلاسة في التعبير وسهولة المأخذ، في رواية دروب التيه، أسلوب سردي يتداخل فيه الميثولوجي بالشعري ، يمتاح شخصياته من معاناة الواقع ومرارته، هي اقرب على الخيال من الواقع، لكن تصب في النهاية في مصب واحد، وهو نقد الأفكار الرجعية التي تكتنزها القرية، وتكرس من خلال سكانها الجهل والأمراض والأمية، الرواية يحكمها خيط ناظم من البداية حتى النهاية فلا تجد أية صعوبة في الانتقال بين المقاطع، فتلتقط الأنفاس وأنت تطيل مع السارد النظر في ثنايا هذا المجتمع ونفسيات أهله، فلا تكل ولا تمل، وقد تنهي روايتك في القراءة وتطلب المزيد.
” يدخن بشراهة ، ينفث الدخان ، يملأ المكان والمنزل الصغير ، فوضى كبرى وكومة من الملابس القديمة وجلابيته ملقاة هناك بلا انتظام، في الجدران خطوط ووشوم، آيات قرانية تطرد الشياطين ، ووتد مغروس في أعلى الجدار الأمامي، يحمل الخبز اليابس، وكوة ينبعث منها الضوء كل صباح ضوء الشمس الذهبية …” (2)
هذا مقطع بسيط للوحة سردية اعتمد فيها السارد على حياة أحد مجانين القرية ليكشف زاوية من زوايا شخصياته النفسية، وكلها: المجنون، الفقيه عبد الله، أهل القرية واسماؤهم المختلفة، الأستاذ، وغيرهم، يمثلون صورة واحدة لشخصية واحدة، ويلقون نفس المصير، ذلك التيه الذي يتحكم في المجتمع ذاك المصير المعلق بين الأرض والسماء، تتحول الأرض على أكبر خطيئة، معلقة بين الأرض والسماء، منها المجرم والضحية بكل أبعادها، الكشف عن تلك الشخصية التي ترتكب الذنب وتصبح المجرم والضحية في الآن نفسه، سرد لرغباتها، انتماءاتها، أفكارها، غاياتها، مبرراتها…
نقد الواقع:
تحمل عبارات الرواية نظرة نقدية إلى المجتمع المغربي بخصوصياته المتناقضة ، من خلال الموضوعات النفسية التي يعرفها|: الحب والامل والخوف والتردد إلخ
يقول أيضا|: مستفيدا من ضمير الغائب الذي يتيح سرد الوقائع الماضية فيخلف الغضب والخوف والتردد وهي قد تكون أقرب إلى صور الواقع الصادمة ذات الحمولة النفسية، السلبية:
” نزل باندفاع كبير في ذلك المنحدر الطويل الذي يجعل الأعين تزيغ، والرؤوس تدوخ وتوغل في الخلاء الفسيح، الذي يضم الحقول الخضراء وواحات النخيل الكثيفة، تريث قليلا ومسح المكان بنظراته الخائفة ثم أضرم النار بسرعة جنونية ثم فر هاربا لا يلوي على أي شيء ربما كان ذلك انتقاما من الصمت والغضب والشمس الحارقة.”(3)
الإحالات:
- (1): الحسين أيت بها، رواية دروب التيه، ( المغرب: عبور للثقافة والنشر، ط1 ، 2023 )، ص 87.
- (2): المصدر نفسه، ص 88.
- (3): المصدر نفسه، ص42.
اترك تعليقا