رجل في السبعين من عمره يمشي به العكاز ، أُغلق المسجد القريب منه وفتح مسجد يبعد عنه بمسافة طويلة ؛ يقع في سفح الجبل ، وهو يسكن في أسفله ، يتحامل على نفسه وعكازه مقتحما عقبات وعقبات ، حتى يرتقي الى المسجد شوقا الى الصلاة فيه مع الجماعة بعدما أغلق لأوقات … كلما اقترب منه ازداد وجيب قلبه وتلاحقت أنفاسه وعلا البشر وجهه وفاضت نفس بالسرور ، ورأيته يثب طربا كأنه طفل يرى أمه بعد غياب طويل ، وشوقا إلى بيت الله قد أنساه ما كان يعانيه من تعب الطريق والعقبات الكؤود التي ينقطع معها نفس الشباب فكيف بعجوز جاوز السبعين !؟!
وقف بباب المسجد وأخذ يتملى أركانه وصومعته … دلف إلى ساحته وصار يجيل طرفه في أرجائه كأنه سجين خرج إلى الدنيا يعانق بعينيه كل شبر من جنباته ويتنفس هواءه على مهل … دفع عكازه ومشى نحو المصلى ، سم الله واستفتح ودخل بيمناه …. هزه الشوق لمرأى المحراب ، وارتعشت فرائصه وارتفعت دقات قلبه ، وتندت عيناه الغائرتان بدموع خاشعات ، و تمنت نفسه أن يضم أساطن المسجد إلى صدره ، ويقبل كل زاوية منه ويلثم كل موضع سجود بجبهته …وقف هنينهة ليقيس الحرارة ، يخاطبه المكلف بقياسها أن يلتزم بنصائح السلامة ، وهو في عالم آخر يسبح في مقام أقل ما يقال فيه لهفة قلب تعلق بالمساجد ، فيلهج لسانه بالحمد لله على أن وفقه الله بإعمار بيت الله …. حث الخطى بشغف إلى مكان شاغر ، استحضر عظمة من وقف بين يديه وفي بيته … حركه هذا من الداخل وأثار في وجدانه رياح الايمان …رفع يديه المرتعشتين بخشوع مكبرا لتحية المسجد بعد فراق أشهر … لم يتمالك نفسه ولا رقأت عبراته في كل حركاته وسكناته ، صلى ركعتين بقلب خاشع مشتاق كما لم يفعل من قبل ، وانطرح ساجدا بين يدي الله شاكيا باكيا ينتحب و يحمد الله على نعمة استضافته للصلاة في بيته، وتوفيقه للسجود بين يديه وسأل الله أن لا يحرمه هذه النعمة …
جلس يذكر مطرقا فانتهى إلى سمعه صوت الاقامة .. الله أكبر ، الله أكبر …. قد قامت الصلاة …. طارت نفسه لهفا وخفق قلبه محلقا معانقا حروف الإقامة …وااااشوقاه لنداء الله … نزلت الكلمات من قلبه نزول المطر على أرض جرداء مجدبة طال شوقها إلى مياه السماء ….فغامت عيناه بالدموع … ورفع من إطراقته متحفزا للصلاة ، قال الامام استووا واعتدلوا وكبر ، فهاجه الحنين إلى هذا المقام النوراني الذي كان يعب من معينه كل يوم خمس مرات وكبر بخضوع وغادر عالم الشهادة إلى عالم الخشوع …وصلى صلاة وامق قد لعبت به رياح النوى عن بيت الله لشهور كأنها دهور حتى حسب أنه لن ينعم بهذه الوقفة في محراب الصلاة يوما ، ونزلت على قلبه من برد الطمأنينة مع حروف التكبير سكينة وخشوع لم يجد للذته مثلها الا في هذا المقام ، وظل يسيح في ملكوت الصلاة يقطف من غراسها ما يصل إليه قلبه من رحيق الذكر … حتى سلم الامام فحز في قلبه سرعة انقطاعها وتمنت نفسه لو طالت أكثر من هذا فوجدانه لم يشبع وأرض قلبه قد جدبت وغاضت مياه الايمان ، وخبا بريق المشائين في الظلم واحترقت نفسه شوقا لإقامة الصلاة في بيت الله حيث الصلاة بسبع وعشرين درجة وحيث السكون والأمان والطمأنينة المستمدة من عالم الاخرة يفوح ريحها بريح الجنان …
يتحامل على نفسه بالقيام مرغما ، وانكسار في عينيه واثار الدمع يخضل جفونه …قد حان موعد الفراق ، تناول عكازه وخطى الى باب المسجد ينزع نفسه منه ، ثم وقف ببابه والتفت كمن يودع حبيبا يعز عليه فراقه ، فرت من عينيه لآلئ خاشعة تختزل كلما يعتمل به وجدانه من معان وما يختلج به قلبه من إيمان وتعلق ببيت الله ..
ثم يمضي إلى بيته مرددا في نفسه ( أي ذنب ارتكبناه يالله حتى نحرم من الارتواء من معين بيت الله والصلاة فيه … وااااتعساه لقلب لم يذق حلاوة الصلاة في بيتك …. ولا عرف لها حقها ، ولا ذاق من معين خشوعها ، ولا شرب من كؤوس سكينتها ….. رب لا تعاقبنا بما فعل السفهاء منا …. وحز في نفسه خلو المسجد من الشباب ، وتقطع قلبه على تخلفهم عن بيت الله في أحلك الاوقات التي هم في أمس الحاجة إلى الصلاة والرجوع إلى بيت الله …. أي جيل هذا الذي ربيناه …. ربنا لا تؤاخذنا بما فعلنا واغفر لنا وارحمنا واهد عبادك يالله …)
ظل يمشي في طريق العودة ساهما مفكرا في حال الأمة وما آلت إليه من الابتعاد عن دينها وهجرانها لبيوت الله …. ويتنهد حتى لتنظن أن نياط قلبه سيتقطع وينقطع معها نفسه … ويلهج بالدعاء بالرحمة والمغفرة
ويلتفت إلى المسجد مرددا :
(إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
(وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا )
قاسم الطويل – مدينة تطوان
اترك تعليقا