ولدت عند قدمي الجبل، دون قابلة، وحدها أمي وصراخها يحمله الريح للدوار، وبعد صيحتي الأولى أسلمت روحها، وبقيت هناك لوقت أجهله، أخبروني بأن كلب الراعي عثر عليَّ و والدتي الباردة مستلقين على ظهورنا، ننتظر الرحمة، حملونا معا، وأخبرتني السيدة التي أرضعتني “إيطو”، أنهم طيلة الطريق الرابطة بين أسفل الجبل والدوار، كنت نائما فوق صدرها، وأن هذا الأخير فاض لبنا وحنوا، رغم موتها، وأبقوني على هذا الحال، إلى أن انتبهت “إيطو” لبرودة أطرافي، وحملتي وأخذتني الى منزلها.
تعجبوا لأمرها، كيف لصدر ميت أن يضج لبنا؟ ظلت حديث الدوار مدة طويلة، ويسأل الجميع:
-من والد هذا الغلام؟
-تراه ابن الجن؟ لعل الجبل والده!
لم يتحدث الكبار عن شامتي، و “ايطو” أيضا كانت تكتفي بلمس شعرات رأسي، وتنسحب يدها بحنو نحو أسفل رقبتي وتنظر الى تلك البقعة السوداء وتقول بصوت خفيض:
“سوادها لها يارب، وليس للولد” .
كنت معجزة وكنت فريدا أيضا، لا أحد بالدوار له مثل شامتي، كنت أرسم حولي دائرة بقطر يتسع لهكتارات مديدة، أحددها كمملكة لي وحدي، أنا وشامتي ولا أحد آخر مثلي، هذا التفرد الذي نلته، كان يترك عقلي سارحا وساهما، أبحث عن شخص يشبهني، حتى أريه شامتي ويريني خاصته أيضا، ونحكي قصصنا ونتبادل الأحاديث و..
الصبية في سني، داخل الكتاب كانو يكرهونني، يقولون لي بأن الجبل والدي، وآخرون يقولون بأن الجن حملني ووضعني في بطن أمي هكذا وراح يطعمها في العراء الى أن أتيت هذا العالم، آخرون كانوا حذرين مني دائما، ويتقون شري معتقدين في دواخلهم أن لي كرامات، وقادر على القتل، كوني شربت من صدر أمي وهي ميتة، والكثير منهم ولم لا نقل كلهم، كانوا خائفين من النظر لهذه البقعة السوداء، أما أنا ووسط كل هذا، كنت سعيدا، لأنني لا أشبههم وأنني لغز يمشي على قدمين، دون والد و بكرامات لا أحد منا يعرفها، حتى أنا نفسي! لكن الشيء الوحيد الذي ظل يؤرقني، هو شكل الشامة، لأنني لا أستطيع رؤيتها.
كنت أجلس قرب جدول صغير هادئ، هناك حيث رأيت وجهي أول مرة، وجه مموج وباهت أيضا، ورحت أقضي معظم أوقاتي بقربه، كنت قد رأيت من قبل وجهي مرات كثيرة بعيني “يطو”، لكنني كنت أبدو بعيدا، كأنني شرودها، لكن الوجه الذي رأيته بالجدول كان أجمل وأوضح.
مستقرة برقبتي، بالخلف قرب آخر منبت شعري، تثقلني جدا، الجميع يراها، باستثنائي أنا حاملها، هل أقتلع عيني حتى أراها؟ أنساها!
الشاق جدا في الأمر، باستثناء أنني لا أراها، أنها وحمة، هذا ما أخبرتني به “إيطو” لاحقا بعد سؤالي المتكرر، وبعدما رأت ترددي المستمر على الجدول.
نعتني غلام أثناء شجارنا خارج الكتاب بأنني مسخ، لم أدر ما كانت، لكنني كنت أريد أن أراها أكثر من أي شيء آخر في جسدي، لقد سكنت عقلي.
كنت أنظر للجدول لساعات طويلة محاولا النظر إليها، فأنا لا أعرف شكلها.. كنت أدير ظهري وألتفت بسرعة علني أغافلها دون جدوى، واكتفيت بنعوت الأطفال في سني، والتي كانت تشبه “المجدوم” ، “القبيح”، “المشوه”… ونعوت أخرى كان يصلني همسهم بها.
بعد أن تخلصت من عادة الجلوس قرب الجدول، بسبب ملاحقة الأطفال لي، وبعد أن سقطت به ذات يوم بسبب سهوي، غيرت عادتي ورحت أجلس أسفل الجبل، بالمكان الذي ولدت به، أسترجع صراخ أمي، وأسأل الجبل أن يعيد صدى صوتها، لأسألها عن قصة هذه البقعة.
وفي إحدى الليالي بت هناك، وزارني رجل بالمنام أخبرني بأن ذلك السواد هو فاكهة، عنقود عنب أسود، وأن أمي أرادت منه ولم تنله وفركت أسفل رقبتها وانتقلت لي، وبعدها اختفى هذا الرجل، ونزلت الى الدوار محموما والشرر يتطاير من عيني، رحت ل “إيطو” أسألها وتجيب برعب بعينيها دون أن أنعكس بهما، وبكت كما لم تفعل في حياتها من قبل، و نمت أيضا من تعبي وبكائي.
في الصباح عدت قبر أمي، أعرف مكانه لكنني لا أزوره من دون مناسبة، كان في دوارنا، خمسة حقول بها ثمار العنب، بينما أمي لم تنل حبة واحدة منه، كانت بالجبل رفقة الجن يطعمونها لحمهم وبولهم ربما، بينما الناس هنا تتظلل بها وتقطف من ثمارها الحلوة.
كتب على شاهدة قبرها “غريب”، لا أحد يعرف اسمها، وايضا كانت تريد عنقود عنب ولم تحصل عليه، لو أنها فقط تابعت المسير لسويعات لكانت أكلت منه، ولكانت وضعتني وبقيت معي وعرفت اسمها، وتخلصتُ من وحمتي.
في اليوم الموالي بساعات الفجر الأولى، رحت باحثا في البساتين المجاورة عن شجرة عنب لأغرسها بقبرها، ولتأكل منها ما أرادت، وجدت واحدة صغيرة وأخذتها معي، وغرستها قرب شاهدة قبرها، ورحت في كل يوم أزورها وأسقيها، وأراقبها علَّ حبة واحدة من العنب تتفجر وسطها، وفي المقابل أيضا، لم أر وحمتي، ولم أنتزعها، بل رحت أسكر من مشروب العنب المحرم والمهرب بدوار مجاور، حتى انسى وربما حتى أراها متجسدة، لعلها تنتقل لموضع آخر وألمحها، وبقيت على نفس الحال الى أن سقطت ذات ليلة بين الدوارين، أسفل الجبل هناك، لم أستطع الحراك، وجاء الجن حاملا صينية بديعة، مليئة بعناقيد العنب، وبمنديل به دم عذرية، وناولوني الصينية كلها غصبا، وبعد آخر حبة عنب، سمعت صراخها وهي تضعني بالجبل، بعد مخاضها الطويل، ولدت مرتين مجددا، بلغزين.. و وحمتين، واحدة أسفل رقبتي، والأخرى تركتها فوق صخرة بالجبل.
شيماء الملياني ننتوسي – مدينة وجدة
ابدعت ما شاء الله.