تجاوز شارع أنوال بأمتار قليلة، فتوقفه الضوء الأحمر بجانب محطة البنزين شال، غر فاه دون أن يشعر وهو يتابع بعينين جاحظتين مرور التراموي من جانبه.
تحرك على منبهات السيارات من خلفه دون أن يتأكد من سماح الإشارة الضوئية له بالمرور.
تسارعت الكلمات في عقله، أراد أن يقول شيء، نادرا ما يلج الدار البيضاء، يظل يحوم في ضواحيها بسيارته المتهالكة، وكل ما أتى إلى وسط المدينة يستشف أن الصورة التي في ذهنه عن المدينة تغيرت، تفوه قائلا والأم، تشير له بيدها بأن يلف على اليمين للذهاب مباشرة إلى مستشفى.
ايه الشارع عبدالمومن، قزموك، قداش كنتي وكيفاش وليتي.
ظلت الأم صامتة في المقعد الذي في جانبه، مشغولة بحال ابنها الذي يجلس في المقعد الخلفي للسيارة، وهي تُمني النفس أن تكون حالته تتحسن وتذهب نحو الشفاء.
توقف عند مدخل المستشفى، طرح مع نفسه السؤال، هل سوف يُسمح لنا بالدخول، أم يسمح فقط لسيارات الإسعاف. أوقف تحرك المسؤول على الباب سيل الأسئلة الذي بدأ يدق ذهنه.
دون مقدمات تفوه قائلا: نعام سيدي فين غاد.
ارتجفت الأم وحرك أحمد في الخلف رأسه كأنه يريد أن يحل مأزق الدخول.
أجابه قائلا وهو يشير بأصبعه للمقعد الخلفي حيث ممدد أحمد، عندي واحد المريض وهو يحاول أن يعكس بملامحه تعاطف معه.
عندك رونيدفو اليوم.
آه، آه، الورقة، الورقة الحاجة (قالها وهو يصرخ دون أن يشعر بذلك).
بدأت تفتش في حقيبتها بهلع كأن قطارا ما سوف يدهسها.
استلتها بصعوبة من وسط كومة من الأوراق، وهي تبتسم ابتسامة باهتة وتفوهت قائلة: ها هي ها هي.
اطلع عليها ثم رفع الحاجز الحديدي من أجل الدخول.
تاه بسيارته المتهالكة وسط المستشفى، لم يعرف إلى أين يتجه؟، في كل مرة كان يشعر بأنه لم يعد يعرف أين يتجه، يتوقف ليسأل أحد المارة.
انقشع بريق في عيني الأم، وهي ترى الجناح المطلوب يظهر أمامها، فتفوهت قائلة: هو هذا هو هذا.
تفحص بأعينه من وراء الواقية الأمامية، العلامة التي تشير لعنوان الجناح، قرأها بصعوبة “جناح جراحة العظام والمفاصل”
ركن سيارته أمام باب الجناح، لم يحرك أحد ساكن اتجاهه كأنه غير موجود، ظل عامل الحماية في مكانه لم يتحرك، ظل جالسا في جناح الاستقبال، لم يكن أحدا غيره.
نزل سائق السيارة يفتش على كرسي متحرك من أجل إدخال المريض، فتحت الأم الباب الخلفي للسيارة، كان أحمد يطرح سؤالا تلو الآخر، هل هذا هو المكان الذي أجريت فيه العملية؟، هل هنا كنت قبل الذهاب إلى المنزل؟، الأم فقط تحرك رأسها لتجيب عن تساؤلاته، أنهكها لم تعد لها الطاقة حتى على تشكيل الكلمات من أجل إجابته.
رجع بعد أن فقد صبره، وهو يتأفف، وجد صف طويلا من المرضى ينتظر الدخول لزيارة الطبيب، كل الكراسي متحركة التي في خدمة الجناح يستعملها أحدا ما.
لم يكلم الأم، تطلع في عامل الحماية، كأنه رأى فيه قارب النجاة، فتش جيبه وما في حوزته من نقود، كمش في يده ورقة عشرين درهما.
فاتحه في الحوار، بالكاد وقف أمامه، أخبره بما هو في حاجة إليه دون مقدمات، أعطاه بطريقة مستترة ما سحب من جيبه، متذرعا أنها مساعدة من القلب الخالص من أجل توفير وجبة الغداء!
مشى مسرعا يبحث له عن كرسي متحرك، ابتسم ساخرا وهو يحدث الأم: (سكيريتي هو دينامو فتينما مشيتي في هاد البلاد السعيدة).
بالكاد أعاد أنفاسه ويحاول أن يخبر الأم بالمبلغ الذي أعطى للعامل من أجل أن تضيفه له فوق ثمن النقل،
حتى تبين طيفه وهو يدفع كرسيا متحركا، تقدم اتجاهه من أجل أن يأخده منه فتفونه قائلا:
(بتعاوريط والله، من يدي ليدك الله يجازيك بخير).
أركب أحمد بصعوبة في الكرسي، وأزاح السيارة من أمام باب الجناح ثم عاد ليساعد الأم في دفع الكرسي المتحرك بابنها.
كان هناك صف طويل من المرضى ينتظر من أجل أن يراه الطبيب، وحركية الأطباء والممرضين لا تكف عن الدوران، وعجلة معاينة المرضى تزحف كأنها معطلة، هناك من يتأوه ألما لم يعد قادرا على الجلوس، وهناك من فضل أن يفرش شيئا من أجل أن يتمدد على الأرض، لا أحد يبالي حتى لو زهقت روحك، البنى البشرية التي تشتغل في الجناح الصحي، اكتسبت المناعة، تخلصت من إنسانيتها نهائيا.
بعد ساعات وصل دور أحمد، دفعت الأم الكرسي المتحرك من أجل الدخول، توقفها صراخ أحد الأشخاص في البهو، أوقف الكل.
كان يصرخ قائلا: أريد أن أرى الطبيب الذي يتابع حالة ابني.
كان صوت آخر يرد عليه بنفس القوة وهو يصرخ: أخبرتك أنه غير موجود ورداد ريقه ينفلت من فمه.
ليس من حقه أن يفرض على من أين أشتري المعدات الحديدية من أجل جبر ساق ابني، هل حتى في المرض أصبحت المساومة والتجارة؟، عار عليكم يا مصاصين الدماء.
دفعت الكرسي المتحرك من أجل الدخول، فهمته على ماذا يتحدث؟، كل من تسأله عاش نفس الألم، لكن الكل يلتحف الجبن وغير قادر على القيام بأي خطوة.
وجدت الطبيب ينتظرها في مكتبه، سارع أحد الممرضين الذين يعملون في غرفة المعاينة لأخذ المريض من يد الأم.
نهض من فوق مقعده، اتجه نحو المريض سأله عن حاله، حاول أن يرفع عنه شيئا من الألم، طَمْأَنَهُ بعد ربت على كتفه بالقول: سوف تكون على ما يرام.
طلب من الأم ملف أحمد، عاين رجله بسرعة بعينيه فقط، وطلب من الممرض أن يذهب به لأخذ صورة لساقه من أجل التوقف عند مدى تطور حالته نحو الشفاء.
تطلع أحمد في وجه الممرض قبل أن يدفع به الكرسي المتحرك، ملامحه أنهضت ذاكرته من سباتها، جعلته يسترجع ملامحه وهو ممدد في جناح جراحة الدماغ وهو مربوط اليدين والرجلين، تذكر نفسه هو يناديه، و يستجد به لطلب الأكل أو…، كان دائما لا يلبي نداؤه، هذا ما استحضرته له ذاكرته بناء على ملامحه.
بعد طول الانتظار أخذ له صورة لساقه ودفع المريض من أجل إعادته إلى الطبيب، عقل أحمد لم يتوقف كان يحاول أن يسترجع كل ما مر به بين جدران المستشفى، توقف عقله، صعقا وهو يتذكر شريط أحد الحوارات التي سمعها وهو ممدد مكسور بين أحد الممرضين، افترض أن أحد أطرافها من يدفع به الكرسي.
جلس فوق الكرسي متدمرا، فسأله زميله بعد أن انتهى من الاعتناء بأحد المرضى.
ما بك أخي جمال.
انتهى اليوم وانتهت الزيارات، والقضية جافة.
(فهم أنه يشير إلى أنه لم يعطيه أحد قرشا واحد. ألف العيش على إعانات الناس للقيام بعمله).
أجابه قائلا: وكل يوم ورزقوا .
وتابع حديثه ينبهه: المريض الأخير في هذا الصف من الضروري أن تغير له الضمادة وتعطيه الدواء، رجله بدأت تتعفن.
فهم أحمد أنهم يتكلمون عليه.
أجابه ساخرا: بماذا سوف ينفعنا، منذ انتقاله إلى هذا الجناح لم يأت لزيارته أحد، ما فيه نفع، دعها تتعفن، أنا متعب الآن.
تنفس شاهقا وهو ينهي تذوق مرارة ما استعرضت له ذاكرته، دفعته إلى الشعور بالحزن، هكذا تكون ذاكرة القوية في بعض الأحيان سبب المأساة.
ابتسمت الأم وهي ترى الممرض قد أعاد ابنها.عاين الصورة بعد أن أخذها من الممرض، قارنها مع الصورة الأولى عند حدوث الكسر، ابتسم وتحرك الذبول مغادرا محيا الأم، كأنها اطمأنت من قراءة الطبيب قبل أن يخبرها.
الحمد لله (قال الطبيب مخاطبا الأم).
ابنك كي تحسن أ الحاجة، يحتاج فقط بعض الوقت. كتب لها موعد اللقاء القادم، أراد أحمد أن يفضح الممرض، أراد أن يخبر أمه، أراد أن يخبر الطبيب، أن يخبر المستشفى كله إن استطاع.
تهاوت رغبته بعد أن شكرت الأم الطبيب والممرض، دفع به الكرسي مستغلا انشراح صدر الأم، تيقن أنه سوف يعود بشيء إن دفع به الكرسي إلى الخارج.
وضعتها له في يده خفية، بعد أن تمدد أحمد في الكرسي الخلفي دون أن يقول شيئا، ظلت تحرقه في الداخل، فتح عنه الباب بعد أن أغلقته الأم، طَمْأَنَهُ، أخبره بقرب الشفاء.
تحركت السيارة والسائق يكتم غيضه بفعل هدر يومه في المستشفى، والأم تنوه دون توقف عن رحابة صدر الممرض.
إسماعيل بخوت – مدينة الدار البيضاء
اترك تعليقا