في مكان يوتوبي حيث تستقيم المعاني وتكتمل، تقف الحروف متراصة كل نهاية أسبوع، لتعيد على مسامع شقيقاتها مغامراتها الشبقة، من ألف يشتكي قائلا، بأنه يغرس كثيرا بالكلمات، ويبدو وسط الكلمة ممشوقا بارزا، بينما هو تعبٌ من شدة الوقوف، ويقول دائما بأنه لا يستطيع تفويت الحركات، حتى يستريح ويضع همزته بعد السكون أرضا، وبعد الكسرة.. نفس الحال بالنسبة لحرف التاء المتعالي … الوقح أحيانا، إذ تجادلت ذات ليلة سبت مع باقي الحروف، قالت بأنها فاتنة، ببسطها وضمها، وتزداد فتنة عندما تكتب وسط الكلمة، إذ تبدو كمن تتعارك الحروف حولها لتضمها وتضل في مكانها وتستريح النقطتين فوقها، بينما يراقبها حرف النون والثاء والياء بصمت وشفقة، تمتد ليالي نهاية الأسبوع غالبا على هذا النحو، إذ تفتخر بعض الحروف بساديتها، وأخرى تعترف بأنها قليلة الإستعمال لكنها ذات قيمة، بينما تكون الفرصة كبيرة بأن تجلس الحروف التي لا يليق لها بأن تجتمع في كلمة، والتي يصعب نطقها متتالية، يجلس حرف الخاء والقاف متعانقين، يتقاسمان كأس نبيذ واحد غالبا، يسخران من اللغة والقواعد، ويذوبان ببعضهما، حتى يبدوان للناظر أنهما حرف واحد، تنجبه اللغة كل ليلة سبت.
لكن لكل جملة غالبا علامة ترقيم تزعج كلمتها الأخيرة، فواصل ونقط للراحة، علامات تعجب لدهشة النص، واستفهام يثري الأسئلة.. ولم يكونوا ضيوفا محبوبين ليلالي الراحة هذه، إذ أحبت الحروف دائما أن تكون جامحة متداخلة ومنسجمة، أن تشبه السيل، فلا حاجة للنص ولا للفقرات المنفصلة المكملة لبعضها، لا حاجة للجمل ولا للكلمات، كانت ليلة السبت هته تشبه لحد كبير من يضع يده بدلو مملوء بالحروف المبعثرة في كل حالاتها، كان ضيف هذا السبت، علامات الترقيم الصارمة، الضيف المزعج.
في البدء دخلت علامة التعجب، كانت تبدو كمن يلبس تاجا ما، اتضح لاحقا أنها معقوفتين تضعهما فوق رأسها، ففي الجمل غالبا توضع المعقوفة لتسمية مانتحدث عنه دون أن يدخل النص، وأرادت هذه العلامة ساعتها أن توضح شيئا مهما، أنها تعبت وستتنحى عن عرشها، وتترك النص لنفسه.
دهشت الحروف وفغرت فاهها مجازا، كاستعارة أخيرة في المشهد، بينما علامات الترقيم الأخرى نصفها كان سعيدا إذ ستترك المجال للشك والحيرة في نفوس القارئين، مما سيطرح كثيرا من علامات الإستفهام، وتعرفون الآن من سعد لهذا، علامة الإستفهام طبعا! أعتذر، هذه العلامة “!” لن نراها بهذا النص مجددا احتراما لخصوصيتها ورغبتها، سنقوم بتغييرها بالسيدة “.” نقطة، النقطة والفاصلة أصابهما الإرتباك، تراقبان الحروف المرتجفة الخائفة، ولا أحد يدري كيف جرى هذا، لكن وسط السُّكر كله، انفصل حرف القاف عن الخاء، وشُدت أوصالهما، كاد حرف القاف أن تسقط عنه نقطته في لحظة، لكنه التقطها وعدلها، وتساءل حرف التاء كثيرا حول صورته البراقة:
-مع غياب الدهشة هل ستسوء سمعتي؟
لكن حكيما واحدا ظل هادئا، كان حرفا مذكرا بقلب أم مكلومة، كان حرف الكاف في آخر الكلمة، والذي يحمل في بطنه كافا صغيرا آخر، أخبرهم:
-الأمر عادي سنعتاده، أحمل في بطني حرف كاف صغير، ويعتقد الكثيرون أنه همزة صغيرة، في كل مرة أكتب بطريق خاطئة أعود لنفسي وأقول بأنني أعرف من أنا، ستغيب الدهشة مع غياب علامة التعجب هته، لكننا سنتأقلم، سنتذكر دائما في دواخلنا، أن شعورا ما ينقصنا، وسنتذكر هذا الشعور دون أن نسميه فقط.
صرخ حرف “الضاد” من الزاوية:
-أحقا ذلك الحرف بأحشائك كاف صغيرة وليست بهمزة؟
إن قلة استعمال حرف الضاد في اللغة، صنعت منه كسولا متعاليا أيضا، إذ يقول بأنه يكتفي بتسمية اللغة باسمه، وهذا السؤال أثار الحفيظة في قلب الكاف المسكين، وأعرب له عن مدى امتنانه، لأنه حسب ذاكرته المتواضعة لم يوضع حرف الضاد خلف ظهره منذ مدة، لأنه كان ليلتهمه، ضم كافه الصغيرة ببطنه واختفى.
ظل الجميع محدقا، ينتظرون شخصا حكيما آخر يتحدث إلى هذه السيدة المتعبة بشكل مختلف، لا يذكر فيها نفسه، أن تكون هي المثال والإستثناء، لكن دون جدوى.
قبل أن تختفي أضافت، بأن اللغة تغشش دهشتها، وأن كثيرين يضعونها فقط حين تضيع الكلمة عن وصفهم للمشاهد، وبأنها تشعر بالشرود كثيرا، ما يجعلها تنظر لنفسها كمن تبيع لحمها مقابل دريهمات، ينفذن بسرعة، ويدفعن بها لبيع لحمها مجددا، وقالت بأنه أحيانا كثيرة، عندما يضيع الكاتب في النهاية يضعها كي يستريح! و لهذا السبب الرئيس رحلت.
شيماء الملياني ننتوسي – مدينة وجدة
اترك تعليقا