عرفت الرواية العربية المعاصرة تطوراً كبيراً من حيثُ التقنيات السردية و ميكانيزمات الكتابة ، وسارت في مسار التجديد نحو أدبٍ موسومٍ بجدّته وطرافته ، هذا المسار التجديديّ أفضى إلى الواقعية أولاً ، ثمّ إلى التجريب . التجريبُ ابتكارٌ ممنهجٌ قبل كلّ شيء ، يسعى هذا الابتكار للخروج من النسق والنمط، فأصبحنا أمام روايات كثيرة يمتزج فيها الواقع بالخيال ، والماضي بالمستقبل، والرمزُ في الشخوص والدلالات والشعر والفنّ في السرد، كما أفادتنا القراءة المستمرّة لما جدّ من الأعمال على ملمحٍ آخرٍ من ملامح التجريب ألا وهو الحكاية المزدوجة (قصة داخل قصة) أو الرواية المفترضة كما يصطلح عليها النقّاد والدارسون.
تستمدّ الرواية المعاصرة، العربية منها على الخصوص، طاقتها الإبداعية من الفلسفات الغربية (العدمية-العبثية-الوجودية) ، والحياة الاجتماعية(الصّراعات والروتينات) والأبعاد النفسية للذات المتأزّمة بالواقع الحضاري (الأزمات ،توالي الهزائم، ترسيخ مبدأ الشك-الانفعالات والسلوكات المنحرفة) .
ونحن بصدد تحليل رواية ، تفرضُ وجودها بقوة ، ضمن الرواية المعاصرة، وهي رواية” القاتل الأشقر ” للكاتب المغربي طارق بكاري . في الشقّ الأول من هذا المقال تجدون العوارض الأساسية لما أسفرت عنهُ قراءتنا لهذه السردية ؛ والشق الثاني سنتطرق فيه لهذه الرواية من منظور” رؤية العالم ” و “نظرية التلقي” :
1-الهوية المفقودة في ظلّ واقع النفي والتشرّد:
توالت الهزائم النفسية ،بعد المادية، التي تلقّاها الإنسان العربي ، يرجع ذلك للكمّ الهائل من الثورات والانقلابات التي مرّت بالوطن العربي والتي زعزعت الاستقرار والأمن ، وأكبر من ذلك القناعات التي كانت تمنّي النفس بعدالة إنسانية ومبادئ كونية..الخ. وقعت الذات في الصدمة من فقدان الرواسخ الدينية والتاريخية وامّحاءها، فتتطلّع هذه الذات الفائضة بالهزيمة إلى الواقع الغربي المنفتح على الإنسانية والإنسان . وهو ما يجعل الإنسان العربي فاقداً لهويته العربية باحثاً عن هوية كونية . يقول الكاتب : “عِشتُ بما يكفي لأفهم أنّي لا أستحقّ الحياة بالقدر الذي لا تستحقّني هي كذلك وأنّ السعادة غير موجودة وحتّى إنْ وُجِدتْ فلا بدّ من أنها امتياز طبقي لا يستحقّه أمثالي ممّن وُلدوا بجرحٍ عميق في الهوية ” . أمرٌ ثانٍ هو الأنظمة العربية التي تحدّ من حرية الإنسان وتقهره بالاستغلال والاستنزاف، فيجد الإنسان نفسه حالماً بواقع جديدٍ تؤسس له مبادئ الاشتراكية . ولعلّ الصدمة الثانية هي اكتشاف وهم مبادئ الاشتراكية في ظلّ نظامٍ حاكمٍ ومهيمن يتبنّى مبادئ تعكس الطموح الشعبوي.
2-الدولة الإسلامية “داعش” نتاجٌ لاضطرابات نفسية أجّجتها الأوضاع القاهرة.
ينطلق الكاتب من عدة قصص للأشخاص الذين وهبوا أنفسهم للدولة الإسلامية “داعش” لإبراز عمق تأثير البعد النفسي الذي يدفع دفعاً إلى الجريمة والعنف. من وجهة نظر أخرى، فارتكاب المجازر باسم الله ما هو إلّا شرعنةٌ للعنف، وتبرير وحشية التطرف على أنها دفاع عن الدين تحتّ مسمّى الجهاد. “وباسم فضيلة مزعومة ها نحن نقتلُ كلّ يومٍ عشرات الأبرياء ، ليس حبّاً في الجنة ولا خوفاً من النّار كما يكرر الأخ الكبير، ولكن لأنّ كلّ واحدٍ منّا يحسّ بأنّهُ قد أصبح لديه مبرّر ليميط اللثام عن الوحش فيه ويقترف كلّ بشاعة من دون أن يجد في ضميره رادعاً ” (ص139)” الجهاد” في الدلالة الجديدة ذريعة لقتل الأبرياء وهو ينبو عن جهلٍ بأصول الدين. يقول عزّ وجل في سورة النساء:
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه وأعدّ لع عذابا عظيما )(النساء93) فالجهاد يتأثر بالحقبة الزمنية فالجهاد في العصور الإسلامية ليس هو الجهاد في العصر الحديث ، فهو جهادٌ النفس أولا، ثم جهاد في سبيل الدعوة ، وما دون ذاك فإرهابٌ وتطرّف.
يدافع الكاتب عن إنسانية الإنسان ، التي تسمو على الأغراض الدنيئة للحرب والتي تهدم الإنسانية بالوحشية والدمار .
3-واقع الدعارة بالمغرب:
عادةً ما ننظرُ للدعارة أو العاهرات بنوعٍ من الازدراء والتهميش لكون العهر تفسّخ أخلاقي ، لكن قلّما ننظر إلى الظروف التي صنعت هذه الظاهرة، وهي غالباً ما تكون قاهرة . ينطلق الكاتب من قصة ” الماما حياة” التي فقدت عذريتها غصباً (تعرضها للاغتصاب من طرف مسنة ) حيثُ قرر والدها تزويجها من إقطاعي المنطقة ، فتهربُ حياة إلى المدينة وتشتغل بغيّاً وتؤسّس لأحد أهم الماخورات في المدينة ، لتصبح حياة بعد ذلك قاتلة متسلسلة تقوم بقتل الرجال بعد العملية الجنسية انتقاماً من الجنس الآخر، ينهجُ ابنها الأشقر نفس الطريق لينتقم من كل النساء بحلق شعورهنّ بعدما خانته شامة وقتلها. يُقدّم نموذجاً آخر هو عاهرة مدينة بوساسو بالساحل التونسي : نور. التي ستحكي له قصتها المأساوية الدافعة بها إلى العهر. يجد أنّ هذه العاهرة خلوقة ومتدينة ويصف تدينها بأنه أفضل بكثير من تدين المجاهدين الذين يدّعون إعلاء كلمة الله . يخبَرُ الأشقر سيكولوجية العاهرات ، فيقول:
“علمتني العاهرات اللواتي افترشتُ أجسادهنّ وسيَرهنّ في دروب الحياة ، أنّ العاهرة تعطي روحها لواحدٍ ، وتترك الآخرين يجدفون فوق جثتها ” (ص261) .
يقرّبنا الكاتب بسردٍ ماتع من واقع الدعارة في المغرب من العائلة التي كانت تتكون من حياة وأبنائها ومنانة وبنتها. وانفتاح هذا الواقع على ظروف اجتماعية وسياسية وأزمات نفسية . يعود الكاتب ليرسّخ فكرته وهي انّ الإنسانية فوق كلّ اعتبارٍ .
4-العائلة اليمنية : سردٌ يكشفُ عن الخرافة و سطوة التقاليد:
في طريق الأشقر إلى” داعش” يحارب مع الحوثيين في ثورة اليمن ، يمكثُ عدة أيام في قبيلة يمنية ترغمه على الزواج ليستمرّ في العيش معهم، فيتزوّج من ريم. تقع ريم ضحية الخرافة ، حيث يعتقدون أن العروس التي تقعد ناقتها أثناء نقلها نحو بيت زوجها فهي غير بكرٍ . وبالتالي يجب قتلها . يدخل الأشقر على ريم فيجدها غير عذراء لأنها سقطت في صغرها ولم تهتم أمها بالنزيف الذي حدث لها .
5-أزمة الذات :
لا يختلفُ عاقلان حول تأزّم الذات العربية، ولكن تتعارض الآراء حول جذور هذه الأزمة وعواملها. وعموماً ، فإنّ آثر الهزيمة هو العامل الأبرز الذي يفرض نفسه بقوة ، فهزيمة 67 حزيران ، وحتّى ما بعدها من الهزائم النفسية، كان لها عميق الأثر في تأجيج الذات العربية . وكنتيجة لهذه الأزمة تُطالعنا جملة من الانحرافات السلوكية التي صارت تتخبط فيها الذات.
ثمّ تأتي العقد الأسرية كعامل ثانٍ ، فالدراسة النفسية للشخصية الإنسانية المنحرفة السلوك تسفر عن كون الاضطرابات والعقد التي يعيشها الطفل تتكوّن كرواسب في القاع وتؤثّر عليه في مختلف مراحل حياته.
فضلاً ، عن الصراع ؛ الصراع مع الغير لإثبات الذات وفرض الوجود ، والصراع الداخلي ، بين قوى الخير وقوى الشرّ ، تتجاذب الذات المتأزمة حبال الخير من جهة ، وحبال الشر من جهة أخرى ؛ فيجد نفسه تائهاً يرزح تحت وطأة الضياع.
تنضاف لهذه الأمور مجتمعة ، أزمة الواقع المتردي المشبع بالسلبية والكوارث التي تجعل من الفرد عاجزاً عن الاستمرار وينشد الخلاص وهو الموت .
- رؤية العالم من منظور لوسيان غولدمان :[1]
ترتكز بنوية لوسيان غولدمان التكوينية على مفهوم الوعي القائم والوعي الممكن فالوعي القائم هو فهم الحاضر والحياة الاجتماعية، أما الوعي الممكن فهو رؤية تتجاوز الحاضر إلى المستقبل أو هي رؤية للعالم.
تُجسّد رواية “القاتل الأشقر ” وعياً ممكناً أو رؤية عالم خاصّة بالكاتب، تتكوّن هذه الرؤية من العناصر التالية:
* الرؤية الإنسانية : وحشية الحرب وتردّي الواقع من العوامل التي جرّدت الإنسان من إنسانيته وكشفت عن نزعة الشرّ فيه . ولا يمكن العودة بالإنسان لإنسانيته إلّا بالسّلم والتصالح مع الذات ومع الآخر.
*الرؤية التاريخية : يرى الكاتب أنّ وراء كلّ نزعة – انحراف- تختبئ رواسب عالقة ، ولمعالجة أي ظاهرة اجتماعية- سياسية (الإرهاب أنموذجاً ) تجب العودة إلى جذور القضية وتاريخيتها، فالتاريخ لا ينتهي في الماضي بل هو ممتدّ في الحاضر .
* رهان الكاتب يتلخص في قدرة الحكاية على مواجهة الإرهاب والوحشية ، وقدرتها على استنطاق التاريخ. يرمزُ على التاريخ بالحكاية؛ حكاية الأشقر، التي تمدّد عمره ، كلما استنطقنا التاريخ والذاكرة الحية فنحن أمام إحياء للإنسانية، وإهمال التاريخ باعتباره ماضٍ ، لا غير ، ما هو إلّا إهمال للإنسان ، الذي يُعتبر فاعلاً في التاريخ وفقاً للتصور الماركسي.
-
- جمالية التلقّي أو دور القارئ في النص:[2]
لا يمكن الحديث عن نظرية التلقي دون معرفة مسبقة ب الظاهراتية [3](عند إدموند هوسرل[4]) التي تحيل على خلاصة الفهم الفردي الخالص المعنى الذي يشير بدوره للحصيلة النهائية للتفاعل بين بنية العمل الإبداعي وفعل الفهم . في إطار تعدد القراء واختلاف درجة التأويل يقترح ياوس [5]بعض المفاهيم التي تنتظم في الجدول التالي :
- جمالية التلقّي أو دور القارئ في النص:[2]
فالقارئ خلال عملية القراءة يتطلّع إلى آفاق الانتظار(النهاية المفترضة) ويطلق أحكامه النقدية الخاصة بعد القراءة ليكون أمام توافق أفق الانتظار أو تخيب أفق الانتظار، وما بين أفق الانتظار الأولي وأفق الانتظار النهائي نجد المسافة الجمالية.
عند قراءتنا للقاتل الأشقر كنا أمام جملة من التوقعات ، على سبيل المثال :
إمكانية إنقاد الأخ الكبير للأشقر >>>>> موت الأشقر( تخيب أفق الانتظار )
يرى ياوس أنهُ كلما زادت المسافة بين أفق الانتظار الموجود سلفاً وأفق العمل الأدبي الجديد، كان العمل رفيعاً ، وعندما تتقلّص المسافة الجمالية وتتوافق التوقّعات يكون العمل رديئا وعرضة للاندثار. وبما أنّ المسافة بين أفق الانتظار (إنقاذ الأشقر) والعمل الجديد (موت الأشقر) واسعة فإنّه يمكننا الحكم على رواية “القاتل الأشقر ” بأنها عمل أدبي فني رفيع .
المراجع المعتمدة في هذا التحليل :
-
-
- رواية القاتل الأشقر-طارق بكاري .
- سرديات معاصرة -الحسين ايت باها.
- القرآن الكريم .
- مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية-مجلة آفاق العلمية.
- نظرية التلقي : افتراضات ياوس وآيزر-سميرة حدّاد .
- إشكالات نظرية التلقي: المصطلح، المفهوم، الإجراء-د.علي حمودين.
-
الحسين بلحاج – مدينة مكناس.
الحسين بلحاج، كاتب مقالات في الأدب والنقد، حاصل على المرتبة الثانية في مسابقة رونق نسخة 2021 في صنف القصة القصيرة، ونُشرت لي عدة مقالات في منابر ثقافية مختلفة.
[1] لوسيان غولدمان فيلسوف وسوسيولوجي فرنسي
(1913-1970)
[2] نظرية التلقي : عند ياوس وآيزر
[3] الظاهراتية: الظاهراتية أو الفينومينولوجيا هي مدرسة فلسفة تعتمد على الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها. غير أنها لا تدعي التوصل لحقيقة مطلقة مجردة سواء في الميتافيزيقا أو في العلم بل تراهن على فهم نمط حضور الإنسان في العالم.
[4] إدموند هوسرل : إدموند هوسرل فيلسوف ألماني ومؤسس الظاهريات، ولد في موراويا في تشيكوسلوفاكيا في عام 1859 ودرس الرياضيات في لايبزغ وبرلين على يد كارل وايستراس و كرونكر. ثم ذهب إلى فيينا للدراسة تحت إشراف كونيكس بركر في عام 1881. كما درس الفلسفة على فرانتس برنتانو وكارل شتومف.
[5] ياوس1921،1997 أستاذ متخصص في الآداب الفرنسية .
اترك تعليقا