يقول قيس بن ملوح: “وقد يجمع اللَهُ الشتيتين بعدما َظنّان كلَّ الظنِّ أَن لا تلاقيا”؛ هذا بالفعل ما حدث مع “مي الياقوت” وأخيها “با فاتح”، فقد التقى بقدرة الله، وهاهم الآن يسكنا معا في كوخ متواضع بدوار أولاد لحمر. ويبدو من خلال مسيرة حياة مي الياقوت أن حياتها في هذه الدنيا كانت اختبارا تلوى الاختبار، على طول خط حياتها؛ فمنذ نعومة أظافرها وهي تتقاذفها كما يبدو، أمواج الاختبارات. فمن المعلوم وصم، أن يولد الانسان في كنف اسرة لا حول لها ولا قوة، ومن المعلوم وصم”اللون” الأسود، وما يتغلغل في الثقافة الاجتماعية حول اللون والمرأة في الثقافة الشعبية التي تتضمن أمثالا أقل ما يقال عنها “عنصرية”.
ها هي اليوم مي الياقوت تجد نفسها في اختبار وضع الام، بالنسبة لأخيها با فاتح الضرير. فهل ستنجح في هذا الاختبار؟
يمكن اعتبار قصة مي الياقوت وبرها بأخيها في ذلك الكوخ، بدوار أولاد لحمر من أقوى الدروس في تاريخ الدوار المعاصر في أخلاق الاخوة؛ لقد علمت مي الياقوت أسر الدوار معنى الأخت _بالنسبة للأخ_، ومعنى الأسرة، ومعنى الصبر على الظروف والأزمات، فما شوهد أو سمع عن أخيها بعد أن تكلفت به مي الياقوت: جائعا، أو بدون نظافة…؛ لقد أكرمته، بما تعد من أطباق شهية_وللعلم أن مي الياقوت كانت امرأة تجد الطبخ على طريقة حاضرة فاس التي تشتهر بطرق طبخ وعادات الغذائية _كما كانت مي الياقوت “طبيبة” با فاتح من خلال تحضير “وجبات” صحية وطرق معالجة تقليدية، ونحوها من أمور النظافة والصحة.
وكانت مي الياقوت عين با فاتح على العالم الماثل أمام الكوخ..هي الكل في الكل، فماذا عسى رجل ضريرا، لا يقوى على الحركة أن يفعل؟ ما كلت أو ملت مي الياقوت من رعايتها لأخيها، في زمن اجتماعي بدأت تظهر فيه ظواهر ترك الأهل، فهناك من يترك أبويه، وهناك من يتخلى على اخوته، وهناك من يتخلى على أبنائه، وهناك من أصبح يهمل زوجه…زمن المسخ كما يسميه مسنونا.
أصبحت مي الياقوت، أيقونة ومضرب المثل في رعاية الأخت لأخيها، وصار واجب ضرب المثل التالي: “أأبر من الياقوت لأخيها”. نعم نجحت مي الياقوت في اختبار.
ويوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، ومي الياقوت في خدمة أخيها، إلى أن أصبح با فاتح على فراش الموت. ليودع الحياة في 23 من تموز/يوليوز 1999م.
لقد عاش با فاتح في الدوار زمنيين وجوديين مختلفين، الزمن الأول هو زمن الذي كان فيه با فاتح يتمتع بكافة صحته، وقوته. لكن هذ الزمن كان وحيدا تقطعت به سبل التواصل مع عائلته، أما الزمن الثاني هو الزمن الذي ألم به عارض فقدان البصر، والمرض وخرت قوته وتراجعت صحته. لكن كان من مميزات هذا الزمن لقاء اخته التي سهرت على رعايته؛ عقدين ونيف، معززا مكرما، في ذلك الكوخ المتواضع.
لقد كان با فاتح أبا للجميع_ومي الياقوت أماً للدوار_ لهما مكانتهما الخاصة عند ساكنة الدوار، لم تبخل عليهما الساكنة ولا ضيوفها ولا عابرها بشيء. تقاسمت ساكنة الدوار كل شيء مع ساكني الكوخ، ان كان فرحا أرسلوا لهما ما تيسر من ولائمه، وان كان قرحا أرسلوا أيضا، أما الأعياد وشهر رمضان فكانت مناسبات للتواصل مع مي الياقوت واحياء صلة “الرحم” معها.
ارتبطت ساكنة الدوار ببا فاتح أي ارتباط، فهو كالشمس الطالعة على الدوار، لذا كان أثر توديعه للحياة بمثابة الصدمة للدوار. فمنذ عرفت صحة با فاتح تدهورا حادا في أيامه الأخيرة، هذا الأمر دعى الناس في الدوار على عيادته بين الفينة والأخرى، وما دعى أيضا اخته الكريمة، على زيادة الاهتمام والاعتناء به. لم يدم الحال طويلا على وعكته الصحية التي جعلت با فاتح طريح الفراش، حتى فارق الحياة بين يدي أخته الشريفة.
في صباح 23 من تموز/يوليوز 1999م، سينادى “البراح” من مسجد الدوار، بصوت مكبر: ” لا إله إلا الله محمد رسول الله ، با فاتح رحمه الله”. نزل الخبر على الناس كالصاعقة، فخرج الناس من منازلهم رجالا و نساء، صغارا وكبارا، قاصدين الكوخ !
اجتمع الناس، النساء في جانب والرجال في جانب أخر قرب الكوخ، تقدمن النساء العزاء لي مي الياقوت، وهن يبكين الفقيد بحرارة. والرجال في مكانهم يناقشون مراسم الدفن وكل خططه، أخذت مجموعة على عاتقها حفر القبر، وأخرى ذهبت لتبضع أضحية النعي، ومجموعة أخرى أتت فناء الكوخ وشيدت مكان الصلاة عبر بناء “القيطون”. وقد جمع الناس فيما بينهم مبلغا ماليا، يعتبر عرف أساسي عند “أجماعة” من أجل مصاريف النعي.
أعلن عن صلاة الميت، بعد ما تم تغسيل “با فاتح” ، فاجتمع الناس و الفقهاء، وألقى الإمام خطبة الجنازة، وصل على با فاتح، صلاة الجنازة، وسير بالفقيد إلى قبره ، في جنازة تقشعر لها الأبدان، نظرا لسيل من الناس الذين حضروا جنازة با فاتح، ذكورا و إناثا، شيوخا شبابا وأطفالا… النساء تبكين… والرجال يرددون لا إله إلا الله محمد رسول الله..
لقد كان يوما حزينا في الدوار بكل المقاييس، فالدوار، فقد “أبا” وروحا كانت ذات بركات على الدوار وأهله. لم يكن فقدان الدوار أقل من فقدان مي الياقوت الجلل، كانا متساويان إلى حد ما، مع الفارق البسيط، فصلات الرحم ليست مسافة واحدة، بين جميع الناس، فالناس بالرغم من بعد صلة الدم، لم تكن أبعدا من با فاتح، فمسافة الأب الرمزي لدوار لا تقل عن مسافة الأخت الحقيقية.
ها هي مي الياقوت باتت وحيدة في الدنيا، انقطعت صلة الدم بموت أخيها با فاتح. لكن الله عوضها بأختها خديجة كريمة بنعيسى العيصوص خير تعويض.
ألم الحزن بمي الياقوت، واشتد عليها، وكيف لا وهي وحيدة في العالم الوسع، لا أخ ولا أخت ولا أحد من أفراد أسرة يعرج عليها. لقد حزنت مي الياقوت حزنا كبيرا على فراق أخيها، كحزن الخنساء على أخيها صخر، وبات لسان حال مي الياقوت يردد كلمات لا تبتعد عن ما قالته الخنساء في أخيها صخر بلغة مي الياقوت. زاد من حزنها، أنها أصبحت وحدها في ذلك الكوخ؛ فحيطانه تذكرها ليل نهار، بأخيها ورفيق دربها، الذي لم تقدر له الاقدار الزواج والانجاب.
دخلت مي الياقوت في العمر الثاني، لم يكن لها نصيب حتى هي الأخرى بالزواج. زاد الحزن وتقدم العمر، من تجعايد الزمن على مي الياقوت..كان با فاتح، اخا وأبا لمي الياقوت، ضحت مي الياقوت بالحياة في حاضرة فاس، وتركت العمل هناك، من أجل رفقته في ما بقي من حياته.
أن تكون في هذا العالم الواسع، بدون أهل، هذا هو البلاء بعينه. عاشت مي الياقوت هذه التجربة، بكل ما فيها من ألم، لكن الظروف والأيام تقدر لك اخوة وأهلا من غير صلة الدم.
لا حزن يدوم، اعتادت مي الياقوت على وحدتها في ذلك الكوخ، فمنذ سنة 1999 إلى سنة 2019، زادت علاقة الود والتواصل بين مي الياقوت والمجتمع الحمراوي. في هذه الفترة لعب جيران مي الياقوت دورا كبيرا في هذه السنوات، حيث سهروا على خدمتها من كل الجوانب. فمي الياقوت في عمرها الثالث؛ ها هي في عمر الشيخوخة، وبدأت الأمراض تتكاثر عليها، وأصبحت حركتها بطيئة…وهذا الوضع يتطلب عناية خاصة. وعليه تنافسن نساء الدوار في الاعتناء بها، كل منهن حسب ظروفها.
يشهد لجيران مي الياقوت بالدور الكبير الذي لعبنه في حياة مي الياقوت وخاصة في آخر أيامها. حيث يشهد على أن جيران مي الياقوت كانوا يحاولون اقناع مي الياقوت بالذهاب للسكن معهم في منازلهم، وهذا ما كانت ترفضه مي الياقوت، حيث كانت ترفض كل هذه العروض، وهي مصرة على مواصلة ما بقي من حياتها في ذلك الكوخ. إلى أن توفيت مي الياقوت في أوخر سنة 2019م.
يشهد الجميع على تضحيات مي خديجة اتجاه صديقتها مي الياقوت(مي خديجة تعتبر الياقوت اختها)، حيث سهرت مي خديجة على كل أعمال التي تحتاجها مي الياقوت. إذ كانت هي كل شيء. زادت مسؤولية مي خديجة اتجاه مي الياقوت في آواخر حياتها، فقد تقعدت مي الياقوت، وأصبحت لا تقوى عن الحركة، شبه عاجرة، حيث جعلها المرض قعيدة الفراش لا تقوى على فعل شيء.هنا كرست مي خديجة كل وقتها لمي الياقوت _ومعها بعض النسوة المجاورون لسكن مي الياقوت_ فهي من تهتم بشؤونها من نظافة ومأكل ومشرب، ونوم بجانبها… وهذا العمل ما داومت عليه مي خديجة. التي قدمت درسا كبيرا في الاحسان، وفي الرفق والبر. لم تستنكف مي خديجة يوما من تنظيف مي الياقوت أو السهر عليها. ان وصف الدور الذي لعبته مي خديجة بشكل خاص، وبشكل عام كل أفراد أسرتها شيء لا يوصف، لقد كانت هذه الأسرة الكريمة الوطن الثاني لمي الياقوت.
وعليه، احتلت مي خديجة مكانة خاصة عند مي الياقوت، فهي صديقتها وأختها، وكانت أمها في أواخر حياتها، تقول مي الياقوت عن مي خديجة في أحد مقابلتي معها، هي: “ختي، ومي، …فيها كلشي “.
في يوم 16 من شهر أبريل/نيسان من سنة 2019، فارقت مي الياقوت الحياة. علم الدوار بالخبر واعلن عن الوفاة، اجتمع اناس الدوار، وقدم الرجال والنساء والاطفال للكوخ. عم الحزن…إنا لله وإنا إليه راجعون…اكرام الميت دفنه.
فتح الكوخ، ومحيطه للعزاء، كان ناس الدوار يقدمون العزاء لمي خديجة صديقة العمر والاخت وأم مي الياقوت…شد الرجال هممهم من أجل واجب العزاء، قاموا بما تقتضيه العادة في النعي…في هذا الحين كانت النسوة تقمن بتغسيل مي الياقوت في كوخها. اجتمع الناس واقيمت صلاة الميت، وسير بالفقيدة إلى قبرها، مقبرة دوار أولاد لحمر، حيث دفن أخوها با فاتح.
كانت جنازة مهيبة، حضرتها جل ساكنة الدوار من أطفال إلى شيوخ..الكل يبكي مي الياقوت…المرأة التي قدر لها أن تكون أما للجميع. انا لله وإنا إليه راجعون.
هذه الأسطر المتشنجة، التي وردت في الجزء الأول من المقال والجزء الثاني(تتمة)، فقط شذرات من حياة مي الياقوت، وأخيها بافاتح. حاولنا جمع ما تيسر منها من خلال بعض المقابلات مع المرحومة مي الياقوت، وبعض نساء الدوار ورجالاته، أثرنا كتابتها، حتى تبقى سيرتها حية في المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى أن تنشر هذه القصة، نظرا لما تتضمن في طياتها من قيم ودروس في الإنسانية كان مجالها قرية بالوسط القروي تسمى دوار أولاد لحمر.
” الله يخلهم ديما مستورين..” من دعوات مي الياقوت لناس الدوار
إسماعيل الراجي – جماعة سيدي قاسم
اترك تعليقا