في شقة من غرفتين باليتين تسكن عجوز وحيدة بلغت من العمر عتيا. رسمت علامات البؤس في محياها طريقا، عيناها أصبحت ذابلتين من كثرة ما دمعت، قلب حزين على فراق زوجها المتوفى؛ توفي منذ زمن تاركا وراءه قلب مكلوم؛ زوجة شاحبة الوجه يتيمة المشاعر، نحيفة الجسم صفراء من شدة مرضها المزمن. لا من ونيس إلا قطتها الهزيلة أيضا. يتقاسمان أطراف الحديث بينهما؛ إذ أصبحتا تعرفان بعضهما البعض من شدة تعلقهما؛ تموء القطة فتبكي العجوز، تضحك العجوز فتدور القطة بين رجليها فرحا.
العجوز لديها ابن يعيش في بلاد المهجر وابنة متزوجة تقطن بجانبها. حاولت الابنة مرارا وتكرارا أن تأخذ أمها معها لتعيش بجانبها وتخدمها لكن الأم متشبثة ببيتها؛ البيت الذي عاشت معه وفيه وبه أحلى اللحظات… توالت الأيام والليالي ومن كثرة وحدتها خرجت لتجوب الشوارع وتتذكر ماض جميل كان ولازال بمخيلتها. لم تعرف أي أحد الكل قد تغير، تغيرت شوارع المدينة وتلونت الأزقة ورحل الجيران. تاهت الطريق فأحست بغربة شديدة: غربة في البيت، غربة في المدينة، غربة بين الأهل والأحباب.
بلا هوية تجوب الشوارع تمشي والصمت الرهيب يلاحقها تشعر بعدم الانتماء. هرولت بسرعة لعلها ترجع إلى منزلها فإذا بسيارة تدهسها وتتركها مرمية على الأرض. ذهبوا بها إلى المستشفى لكنها لم تعرف أحدا ولم يتعرف عليها أي أحد. طمست هويتها ونست ماضيها وحاضرها. لم تعد تعرف حتى اسمها. لا تذكر إلا أنها عجوز تعيش الغربة والغرابة والاغتراب. غربة عن النفس وغربة في الحياة.
فما أصعب العيش كالمنبوذ. حاولت تذكر شيء ما لكن لم تستطع رفعت عينيها إلى السماء ومر شريط حياتها أمام عينيها، تنهدت فقالت يا ليتني لم أتذكر فما هي إلا غربة كنت ولا زلت أعيشها. زمن توقف منذ زمن وحياة تعطلت بعد حياة كانت ولم تعد
حياة عبداللوي _الفقيه بن صالح
اترك تعليقا