أطل علينا منذ أسابيع الروائي الجزائري الكبير عزالدين جلاوجي بروايته ” هاء، وأسفار عشتار” وهي الدرة العاشرة في عقد رواياته المتنوعة والمثيرة للمتعة والحيرة بما تخوضه من مغامرات تجريبية، وإن كانت الأسطورة حاضرة بشكل أو آخر في كل نصوص جلاوجي الروائية والمسردية فإنها في روايته الجديدة كانت أكثر حضورا وأكثر عمقا.
ينفتح نص رواية “هاء وأسفار عشتار” على عوالم أسطورية كثيرة، وتمتزج فيه أشكال فنية متعددة، ويتألق صوت البيان في صياغته بأسلوب ساحر، مما يجعل القارئ يعيش الواقع والأسطورة معا.. يعيش حرقة الإنسان في البحث عن إنسانيته، إنسانية تدنت وفرخت فسادا وخرابا وعبودية، وعاثت فسادا وظلما ضد الإنسان ذاته وضد الطبيعة بكل ما فيها، وضد الحياة ذاتها.
رواية هاء، وعشتار وأسفارها ينهض سؤال الحرية صارخا حارقا، وهو ما ظل يتردد في المتن على لسان الشخصية المتن: “إنما الحرية أن تخرج العبودية منك.. لا أن تخرج أنت من العبودية”، فكان ذلك صوت الإنسان الداخلي، الإنسان حين يرتقي بإنسانيته بعيدا عن العبودية التي كبلته على مدى قرون وقرون، عبودية العادات والتقاليد والأديان والسياسة والأفكار والنظريات وهو ما أشار إليه النص على لسان الشخصية المحور والتي لم تحمل اسما “لأني أؤمن أني لا أؤوب إلا إلى ذاتي التي أتمرد عليها أحيانا، لأني أؤوب إلى حريتي، حتى البيت أحيانا يكون سجنا إن هو صار قفصا محكم الإغلاق وأفكارنا وذواتنا وكل شيء يمارس سطوته علينا، حتى رغبتنا في الأكل والنوم والكلام والصمت”، كأنما البحث عن الحرية لم يعد ذلك البحث النمطي المتعرف عليه ضد الظلم والعبودية، بل صار جزء أيضا من الحياة اليومية. لينطلق بعدها الأديب من عالم الواقع إلى عالم الأسطورة الذي يشبهه في بعض الحيثيات وينصهر معه في بوتقة الحرية.
إن الأسطورة في النص لم يسقها الأديب إلا إمعانا في السؤال، ورغبة في التعالي على كل ما يكبل الحرية ويمنعها عن الانطلاق تشويها للفطرة.
وقد انتقل الأديب بشخصيته المحور إلى عالم الأسطورة حيث الالتقاء بالإلهة عشتار، والانخراط في عالم التحول والمسخ، إلى رحلة الالتقاء بقلقامش رغبة في الخلاص “اعتدلت في جلستي وقد بدأ الظلام يتبدد، واقترب مني وقع أقدام غليظة تضرب على الأرض بثقة وخيلاء، وامتدت إلي يد خشنة فأنهضتني، ومددت عيني لأرى رجلا أمامي ممتد الهامة غائر العينين كث اللحية، في صدره تتجلى الحياة والحكمة، وأمرني بالوقوف. عرفته للتو إنه قلقامش المخلص، وسعى فسعيت خلفه، ورغم انه لم يواجهني بالحديث إلا أن أسراره كانت تبلغني”.
لقد كان السرد عميقا لا يمكن أن يفلت منه القارئ شوقا ودهشة، فقد استطاع الأديب أن يشد المتلقي إلى أغوار النص وأغوار شخصياته، داعيا إلى وجوب انهزام الزيف دائما أمام نور الحقيقة.
رواية هاء وإسفار عشتار لامست الأعماق الإنسانية، بل صنعت نداء بداخلنا يحضنا على أن نجعل لحياتنا معنى، وأن تكون لأهدافنا وأحلامنا قيمة وعمقا، وأن يكون سعينا كله للسلام والحرية ونبذ العنف، إضافة إلى ما تقدمه الرواية من متعة ومعرفة وما تثيره من أسئلة، وهو ما تحدثه كل مؤلفات الأديب الدكتور عزالدين جلاجي السردية “رواية، وقصة، ومسردية” إضافة إلى ثراء اللغة المحلقة في عوالم الشعر، وعبقرية التجريب الذي يجعل كل نص من نصوصه مغامرة سردية جديدة يخوضها بحب فيصنع سحرا ودهشة.
يعتبر الأديب الدكتور عزالدين جلاوجي ظاهرة أدبية تكاد تكون فريدة من حيث الإنتاج الأدبي
المتنوع والثري، وقد أصدر عشرات الأعمال المسرحية ثم السردية منها ثلاث مجموعات قصصية
واثنتا عشرة مسردية وهو تجريب خاص بالأديب نحته من كلمة المسرح وسماها المسردية، كما قدم
مسرح اللحظة.
وفي رصيد الروائي إحدى عشرة رواية منها رواية “هاء، وأسفار عشتار”، كما أصدر أحد
عشر كتابا نقديا، وأصدر للأطفال أربعين مسرحية وسبع قصص، وبالتالي فإنه يعد من أغزر الكتاب
الجزائريين وأكثرهم تنوعا، وأقدرهم على خوض غمار التجريب.
نجاة مزهود – الجزائر
أديبة وروائية جزائرية مهتمة بالفن والثقافة لدي مؤلفات في الرواية والقصة وأدب الطفل والشعر.
اترك تعليقا