كان بين يدي سنابل منكمشة، وجافة، وبالمناسبة يداي صغيرتين، وبهما بعض البقع البيضاء كانت قد انتشرت جراء تأثرها بالإنحباس المناخي، فراحة يدي تصلبت من شدة عناء جر حبل مد أهلي بمصدر الحياة أي الماء، أما الإمساك عن رعي الأغنام فقد إنتهى منذ الأسبوع الأول من عودتي…
دخلت بيتها، وكان على اليمين غرف متراصة كأنها تنتظر من يدخلها، وعلى اليسار بعض الكراسي هي موجودة لكي يجلس عليها الموتى عفوا الزوار، بفناء البيت مرفع عتيق، به مداخل كثيرة تنفذ منها أشعة الرحمان، وفوقه ثوب أبيض مدنس، سيحتضن من ستوضع بالأجدات، دخلت وقد رميت تلك السنابل على أرض خلاء فوزعتها الرياح إلى حيث سيصبح لونها غامض، ثائر، وقابل للترميم على سبيل المجاز.
ذهبت يومها كي أستريح من لغط من سكنوا الدار أكثر من عشرة أيام، تركت الجدة ملقاة على السرير وبقلبها الكثير والكثير من الألم.. وبعض من مظاهر الحياة.
هي الآن مادة غير قابلة للتداول، ولا للاسترجاع، عندما دخلت أول ما إلتصق بشبكة أذني صراخ أمي، التي لم تكن يوما تطيقها، وقفت أمامها دون أية ردة فعل، جرتني من ثوبي الذي ارتديته ذاك اليوم لأول مرة، مزقته إربا إربا، ثم شدت يداي ودفعتني إلى الغرفة التي بها رائحة الموت والنفاق، وهي تدفعني لم أمتنع ولم أبادر إلى أي شيء سوى الدفع بجسدي المستراح هذا نحو ما تريد، حينها لم استوعب شيئا غير هذا الجمع الغفير للبعيد قبل القريب.
اقتربت من الجثة، وانحنيت على وجهها لا لأقبلها ولا لأودعها، بل لكي أردد بعض التعويذات التي أملتها علي تلك المرأة “الغسالة”، غسالة الموتى من النساء طبعا..كل ما فعلته ذاك اليوم لم أكن فاعلة له لولا شعوري بالأسى، فقد صرت مسلوبة الإرادة مذ عودتي من المدينة، كل ما اعتدت عليه إلى حدود اللحظة هو ترك ما اقترفت من رذائل للرياح كتلك السنابل…
يوم عدت ظل أصحاب الورود والبذلات الحسنة والقامات العريضة، منهم الوضاءة وجوههم وهم من أهل المدينة، ومنهم ما إن تنظر إلى وجوههم إلا وتتذكر الصحراء وشغف التحرر، والإحتفال بليلة الدم..ما أن يذهب الأول حتى يأتي الثاني..لأكون أنا مزار الحجاج للزواج، وقد كانت تلك التعويذة من أجل التسريع بزواجي طبعا.
صارت تلك الأرواح التي استوطنتني طيلة الفترة التي قرأت فيها ما تيسر من الذكر والأدب والعلم ووو وما شاهدت عيناي من أفلام عربية لأهل مصر وتاريخها، تواجه تلك التعويذة وتحاول أن تحللها بالمعنى البيولوجي، لكي يزول مفعولها، فقد كنت أنا الفاعل والمفعول به في ذات الجملة..هي التي الآن أضحت تتكلم مكاني، فكل مشهد أنا فيه وكل حكاية أنا طرف فيها…
لما دفع بي للخروج بدأ الناس في مواساتي منهم من عرفت ومنهم من لم تراه عيني يوماً قط!!
كان يوم عدت يشبه هذا اليوم، لكن مع ذلك لم تكن كلمة ” الباركة فراسك” حاضرة مع العلم أن عزائي الأول والكبير كان يوم عدت، كنت يومها حاملة لكومة من الكتب التي كنت اقتنيتها بما كنت امتلك من نقود، ومعي بعض الصور التي نقحتها ورممت منها القديمة عند مختص بالمدينة.. لابد أنني كنت قد التقيت بأحد الأصدقاء القدامى ليقول لي: باركة من القراية أ بنت المختار..ليطلق العنان لتلك الضحكات المستفزة.. والأكيد أنني خلفت ورائي زوبعة، والتراب كاد يعانق السماء فهذه أنا عندما أكون في حالاتي المفرومة وهي كثيرة جدا.
كانت الزرابي والستائر كلها بلون واحد، رمادي، ولما جلست بالغرفة ذاتها التي تركتها يوم ظننت أنني لن أعود إليها إلا كجثة وفعلا أنا الآن هي الميتة ولا عزاء إلا لروحي التي لم تعد إلا كشبح، جاءت إحداهن لتمرر يدها على خصري دون أدني موعظة مني، كنت ما كنت.. لم أحاول، لم أفكر، أخيرا استطاعت هذه المرآة الواطئة بجمجمتي أن تحرك جرس التنبيه، ماذا حدث؟ صرخت، إنتابتني حالة من الهلع، مزقت ما تبقى من التوب، وفجأة شعرت أن شيئا ما حدث، كنت وحيدة بتلك الغرفة، والباب محكم الإغلاق، وأنا الآن أستشعر انني أملك القوة للتدمير، للهدم، للإقلاع عن الأفكار التي استهلكتها يوم كنت اقرأ العلم! لابد أن هذه الحالة هي نتاج لتلك التعويذة أو ربما أن حقيقة وجودي قد استدركتها عندما ارتبطت بمؤشرات وجودي، والتي هي؛ أمي التي تقترب مني عاطفيا فقط لكي ألبي نداءها، أبي الذي ورثت عنه مصيبة التفكير والتدخين، إخوتي الذين لا صلة بيننا غير إرسال النقود كل شهر أو شهرين ثم رمي السباب عبر الرسائل بيننا، أهل البلد الذين أمر عليهم دون إلقاء السلام، بعض الصبايا الذين كنت أقرأ عليهن بعض القصص، “دعاء الكروان” كانت أم هذه القصص، أراني مشكلة ضمن أرواح تتكلم مكاني وأنا أيضا أحدى تلك الصبايا!! ثم جدتي التي انطلقت حيث كنت سانطلق قبلها.
كان انسحاب الناس شريرا يومها، تركونا كما كنا، دفنت الميتة وانتشر أهل البلد في أرض الله الواسعة، ولم يعودوا إلى اليوم.
يومها كان أول مرة شعرت فيها أنني علي الإختيار بين البقاء وبين البحث عن مخرج لهذه الحياة، ركضت وركضت كالصبي المفزوع الهارب من جلاده، وعندما أحسست أنني وتلك الحياة بعيدان، توقفت، وشعرت أنني في حاجة لكي أعانق الأرض قبل موتي، تحسست الأرض ثم جلست وبكيت لأنني سأضطر العودة…
عبثا وبلا فائدة سجلت رقم هاتفه ليرن طبعا كنت مذنبة لأنه لا يستحق.
– انا الآن متزوج وأب لولد، كان هذا موجز حديثه.
لم انطق ببنت شفة، كان بإمكاني أن أخبره إني سأظل أهاتفه حتى استوفي شروط البقاء دونه، لكنه رفض وقال: -هل انت بحاجة للمال؟
سقطت على الأرض مرة أخرى والبكاء ملئ عيناي.
الغريب أنه بعث المال باسمي والأكثر غرابة أنني استلمته.
وماذا فعلت به؟ اشتريت مرفعا جديدا لأهل البلد، وجددت ما يمكن تجديده، رممت بيت الله، واشتريت الخلود لميلان كونديرا. ثم عدت إلى غرفتي لأنام .
أكبر مأساة أعانيها الآن أنني أفعل ما أراه صائبا، ثم أسير حيث أريد لاصطدم بالواقع أي بعروض الزواج..
كنت أدخن، وكنت امتطي الحمار لبلوغ الحانة وكنت زير نساء وكنت أبا لطفلتين لا أعرف اسمهما..لم أكن أنا هذا، بل كان ابي، أما أنا الآن فانني إحدى الطفلتين وقد بلغت اليوم عقدي الثالث ومازلت أعاني من أشياء مضت لكنها كانت قاسية حتى تجعلني على ما أنا عليه.
سأظل وحيدة أحلم بأشياء تحتاج إلى التعدد لا إلى الوحدة طبعا.
مرة كنت قد التقيته، وكانت آخر مرة، بإحدى الأماكن الهادئة كانت حديقة مهترئة لكنها مازالت متشبة بقواعد العيش. وقد كان يتأبط خيرا، تحت ذراعيه كتاب دسم المعنى كان الكتاب لغابرييل غارسيا ماركيز “عشت لأروي”. لا، أنا لم أعش لكي اروي، حياتي معتلة وبها الكثير من الأحداث التي مازالت تتدفق ولا استطيع أن أعرضها في هيئة نص او حتى صور متحركة لأنني أود أن اقضي آخر أيامي بعيدة عنها حتى استطيع أن أموت دون عناء الاستعارة، فأنا الآن منشغلة بسقي سنابل أرض الجدة..
اترك تعليقا