عدت بعد منتصف الليل، أمشي الهوينى وحيدة.
كل ما أحمله كان معطفا أسودا يقيني شر البرد وقساوته ومظلة حمراء أحملها بيدي اليسرى.
كان الشارع خاليا لم يتجرأ أحد على كسر هدوئه، قطرات المطر وحدها كانت تحاول التلصص علي لولا مظلتي التي ردعت فضولها، فتولد عن هذا الهجوم والدفاع سمفونية راقية.
أخطو خطواتي بثبات محاولة استنشاق أكبر كمية ممكنة من الهواء العليل الممتزج برائحة التراب الندي، أعشق هذا الخليط أيما عشق!
تثاقلت خطواتي وتناسيت الزمن، حلقت بجوارحي في الفضاء متحررة من الماضي والحاضر والمستقبل.
في كل خطوة أخطوها، أشعر بانبعاثي الجديد إلى هذا العالم.
تحسست جيب المعطف، أخذت المفتاح وتأملته مليا قبل فتح البيت، صارت الأمور مختلفة فجأة، لا أعلم إن كان كل شيء قد تغير أم أن نظرتي من فعلت!
أغلقت الباب بهدوء عكس ماتعودت، صعدت درجات المنزل وأنا أعدها للمرة الأولى.
دلفت إلى غرفتي، نزعت معطفي المبلل وحذائي الأسود، جلت ببصري في المكان كأني أراه للمرة الأولى، أتفحص كل ركن من أركان الغرفة، السقف والنجوم على الجدار وألوان الغطاء المبعثر وفوضوية خزانة الملابس، كل هذه التفاصيل بدت غير مألوفة.
اتجهت إلى المطبخ وحضرت كوب قهوة ساخن، لكني حقيقة لا أحبها ولم أتذوقها لسنوات عديدة، وضعتها أمامي أتأملها وأتساءل عن السبب الذي يجعلني أكره هذه السمراء التي يعشقها العالم؟
تأملت الطاولة بجانبي فإذا بها مكتظة بدفاتري وأقلامي وكتب لا أدري إن كنت قد قرأتها سابقا أم لا، هنا أمضي جل يومي بعيدة عن الضوضاء، عن البشر وعن الحياة بالخارج، هنا أمضي ساعات يومي منعزلة عن كل شيء، لكن اليوم سأقول كفى لهذا الروتين المميت الذي جردني من إنسانيتي ومشاعري وحرمني من عالم لم أخض في تفاصيله، ماعشته صدفة اليوم مع تلك العجوز وماسردته عبثا منها لم يكن كذلك بالنسبة لي. قطرات المطر التي بللت جسدي، الهواء الذي أحاط بي، الأشخاص الذين صادفتهم وانتبهت لملامح وجوههم وانشغالاتهم، الشارع الفارغ بمنتصف الليل، القطط التي حاولت إرهاب كلاب الحارة، كل هذه التفاصيل التي عشتها اليوم كان تأثيرها علي أشد من كل ما كنت أقرأه طوال الشهور الماضية، أقوى من تأثير الصفحات التي لوثت بياضها بالحبر خلال دراستي.
أدركت هذا اليوم أن الإنعزال عن العالم الخارجي هو إقرار الموت البطيئ، هو السماح بتلاشي روح مسجونة داخل الأضلع.
توقفت أمام المرآة التي طالما تجاهلت وجودها بالغرفة، تأملت ملامحي التي لم أعرها انتباها هكذا من قبل، بحثت عني في الإنعكاس أمامي لكني لم أجدني، كل ما أراه كان فتاة جوفاء طاعنة في السن، لا بريق الشباب في عينيها ولا تدب الحياة في أوصالها.
اقتربت خطوة أخرى إلى المرآة، ركزت نظري على نظرتي، وتمتمت:
– “آن الأوان لأحررني من هذه الروح الجامدة، لا أعلم كم من الوقت أملك، لكنه حتما لن يفر كما اعتاد..”
سعاد أمرير – مدينة أيت اعزا
اترك تعليقا