على ضفاف الساحل يبدأ عادل حديثه وينثر سحر لغته على مسامعي مجددا فيقول:
حينما وهبني القدر فرصة اللقاء، وكان ذلك بعدما استحال الصبر إلى لافا بركانية تتدفق في الشرايين عبر القلب، انتفضت فيَّ أحاسيس باذخة أيْقَضتْ ما مات في الجسد من مشاعر. كانت سميرة تَعدُنِي لقاءا ساحرا كما تقول ونحن نتعهد ألا يفصل بيني وبينها لحظة اللقاء إلا ما لا يستطيع الزمن الصمود امامه… بضواحي مكناس، قرية بها من الجمال ما يؤهلها لتَسْكُنَ عمق من يراها، بـ – السخونات وبالضبط الطريق الرابطة بين فاس ومكناس- ربطنا اللقاء وكان الجو فيها يُحْدِثُ في العقل تناقضا صارخاً بين المكان واسمه، باردةً كانت وأدْمَتْنِي وأورثتني فيما أتى بعدها من الأيام خيبة لا تطاق. حين سمعت مؤذن القرية ينادي إلى الفلاح، تمعنت في ساعتي وفهمت ان موعد الصلاة الوسطى قد حان وأن موعد لقاء سيدة القلب اقترب كنار تفتك بسرعة في الهشيم…
ما تلا تلك اللحظة التي حَمَلتُ فيها هاتفي رابطا الاتصال برقم هاتف معذبتي كان صادما لا يُبْقِي حسب ظني في الأحاسيس شيئا ولا يَدَرْ… أجابتني وهي تخبرني ضاحكة أنها لن تستطيع المجيء، وقالت بصوت المتأسف على حاله؛ تعرف يا نبيل أن الأقدار أجلت اللقاء ولا طاقة لنا عليها، ولكن حينما استشفت من حديثي نرفزة قلق، أبدت اعتذارات كثيرة لا تمث للمنطق بصلة، وتوعدتها ان إنهاء المكالمة – ولم أكن أدري أنني بذلك قد ألقيت نظرة على الغيب- يعني نهاية ما جمعني بها من أيام وصُعِقَتْ من طريقة حديثي، وأخبرتني معترفة أن الحبيب حينما يحب، لا يؤجل اللقاءات إنما برغبة جامحة يحاول أن يَبْعَثَ من عمق لقاء واحد لقائين أو أكثر… فهمت من حديثها أنها آتية حسب اعتقادها نحوي وإليَّ… وفهمت بعد كل ما وقع أنها كانت تفرش لنفسها مواعيد مع الميتافزيقا.
حينما أنهت حديثها.. سألتها بشوق عاشق أتعبته ويلات النوسطالجيا عن الفاصل الزمني بيني وبين عناقها المزلزل فأجابت؛ أنا الأن تجاوزت منطقة “المهايا” حسب ما التقطت أذني من شخص يجلس إلى جانب سائق الطاكسي ولا يخفى علي انطلاقا من أحاديثه أنه ابن المنطقة لا محالة. تتابع كلامها العذب، لون الطاكسي أبيض ويتوسطه خيط أزرق وأرى في الاتجاه أمامي شخصا يبعدنا ونحن نقترب منه شيئا فشيئا. الصدفة يا عادل أن الشخص البعيد/القريب كان أنا، رفعت رأسي مديرا أسود عيناي وأبيضها نحو الطريق فنطقت شفاهي، أنا يا كل ملاذي الشخص أمامكم والطاكسي الذي يُقِلُكْ أراه يقربني شيئا فشيئا. لكني لم اكن أستوعب انه بقربه هذا يبعدني عنها ويخبرني بلغة الغيب أن بيني وبين الفاجعة منعرج طرقي، حينما أنهيت المكالمة رافعا رأسي، حدث ما لا يتحمله قلب عاشق مثلي… السائق تهافت وهو يغوص كغيره من سائقي الطاكسيات في أحاديث العالم، أسباب كورونا ونتائجها ولم يكن يعرف انه في مقعد خلفه يقل كل دوائي.
المنعرج يرمي بالمخطيء بعيدا وحينما أخطأ السائق بكثرة أحاديثه وسرعته التي تجاوزت الحد، أفقده المنعرج تحكمه في المقواد وانزلقت به العجلات جانبا ورأيت الطاكسي – وداخله كل دائي الأن ودوائي أنذاك- تبتعد عن الطريق وتقترب من الهاوية، في النظرة الأخيرة قبل أن أسقط مريضا تهادى إلى عيناي خيط دخان أسود ودماء في الزجاج الخلفي للسيارة، فلم أجد للتحمل سبيلا وسقطت ويا ليته كان سقوطا أخيرا.
أخبرني الطبيب بعد أسبوع كامل أغلقت فيه عيناي عن الدنيا أن أملا ما هو ما أستطاع أن يبقيني حيا، وأن قواي وشيئا ما داخلي أصابهما الخلل فكدت ان أغادر… أخطأت عجلات السيارة الطريق بعبث السائق ورمني ومن معها قلبي إلى ما لا تحمد عقباه، هي سافرت حيث لا أستطيع بعدها ان أراها وأنا سافرت حيث لا يجدر بي أن أكون لولا جزئيات الحياة الخبيثة.
الحياة يا عادل تلعب على أبسط الجزئيات، وجزئيتي انا كانت الثانية التي أنهيت فيها المكالمة مع سميرة – مؤمنا أنا لقائنا قد حسم- ولم أكن بذلك اعلم أنني أنهيت علاقة العمر بدون لقاء يتوج آلام انتظاراتي وينهي ما تركه المستعمر بوحشيته في الوطن وقبله في أهل قريتي.
علي وخدجو- مدينة بزاكورة
أستاذ مادة الفلسفة
نص ابداعي جميل
قصتك رائعة تتضمن حكمة جميلة أحسنت عملا ووفقك الله لما يحب ويرضاه
فالحياة مثل القمر تارة تجدها ممتلئة ومنيرة وتارة فارغة ومظلمة. لدى فلا تتخلى عن كتاباتك الرائعة فليس للحياة قيمة إلا إذا وجدنا فيها شيئاً نناضل من أجله
ما هذا الإبداع يا علي!
نص يأخذ بخيالك وكأنك تشاهد الحادث وتسمع الحديث، ويا ليت النهاية لم تكن إلى الهاوية…
حياك الله سي علي.
مقال رائع للاستاذ الغني عن التعريف