تعريف الاشتراكية وبوادر ظهور الفكر الاشتراكي
الاشتراكية في تعريفها البسيط نظام اقتصادي واجتماعي يهدف إلى تذويب الفوارق الاجتماعية الفاحشة التي أسس لها النظام الرأسمالي العالمي منذ ظهوره في أفق القضاء عليها، وذلك عبر إلغاء الملكية الفردية (الخاصة) وتعويضها بالملكية الجماعية (العامة) وانتقال السلطة الفعلية للطبقة البروليتارية ( العمالية ) لتحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وبناء المجتمع الجديد. ( المجتمع الاشتراكي )
ظهرت بوادر الفكر الاشتراكي مع الفيلسوف الإنجليزي “طوماس مور” في كتابه ” اليوتوبيا ” الذي دارت سطوره حول بناء المجتمع الفاضل والمثالي المتسم بالعدل، وجاء بعده المفكر والمؤرخ وعالم الاقتصاد الفرنسي “سان سيمون” الذي أسس للاشتراكية الطوباوية ( المثالية ) إلى جانب كل من “روبت أوين” و”شارل فورييه”، وإذا كان مؤسسو الاشتراكية الطوباوية قد وعوا بفحش الاستغلال البرجوازي للطبقة البروليتارية، فإنهم وقفوا حائرين حيال هذا الاستغلال حتى جاء “كارل ماركس” و”انجلز” في القرن 19 واللذان طورا الفكر الاشتراكي بظهور الاشتراكية العلمية التي أضافت إلى الفكر الطوباوي الواعي ببؤس العمال، إمكانية اتحادهم وتشكيلهم قوة ضغط قادرة على هد أركان النظام الرأسمالي القائم على الاستغلال واستفادة قلة قليلة من خيرات العالم، والسير نحو بناء المجتمع الجديد عن طريق ثورة البروليتاريا، وهذا ما يؤكده نداء ماركس: ” يا عمال العالم اتحدوا ” (الاتحاد قوة).
البيان الشيوعي وبداية النضال العمالي “المؤدلج”:
إبان صياغة البيان الشيوعي سنة 1848 كانت البرجوازية الرأسمالية قد أحكمت سيطرتها الاقتصادية والاجتماعية في الكثير من البلدان، وأدخلت الآلة إلى المعامل والضيعات الفلاحية ما خلف استياء كبيرا عم العمال سيما الزراعيين الذي اضطروا للهجرة إلى المدن ليدخلوا جهنم من أوسع أبوابها حيث الاستغلال الفاحش للعمال وإخضاعهم لشروط عمل قاسية تنعدم فيها الإنسانية، كما بلغت الرأسمالية خلال القرن 19م أعلى مراتب التوحش والتطور بظهور المشروع الإمبريالي الذي اكتسح مختلف مناطق المعمور برا وبحرا، جاعلا من العالم سوقا استهلاكية للدفع بالفائض الصناعي واستنزاف الموارد الأولية، ومن الإنسان آلة حديدية في خدمة الإنتاج.
في هذه الظروف المتسمة بمعاناة العمال، صاغ ماركس وانجلز البيان الشيوعي والذي دعا بشكل صريح الطبقة البروليتارية إلى الانتقاض وإعلان الثورة ضد البرجوازية المتحكمة في مقاليد الاقتصاد العالمي، وبناء المجتمع الاشتراكي العادل. لقد اكتسح الفكر الاشتراكي مختلف مناطق العالم حتى المعاقل الأولى التي كانت سباقة لتبني النظام الرأسمالي ( فرنسا، بريطانيا..) حيث ظهرت حركات عمالية منظمة لبت أو حاولت تلبية نداء ماركس وانجلز في بيانهما الشيوعي لكن دون أن تستطيع كبح جماح البرجوازية وأطماعها المتواصلة في بناء الثروة على حساب استغلال العمال، وبعد حوالي سبعين سنة من صياغة البيان الشيوعي انفجرت أحداث الثورة البلشفية بروسيا والتي شكلت انتصارا عظيما للفكر الاشتراكي وتنزيلا للبيان الشيوعي مجهزة على النظام القيصري الرأسمالي.
الفكر الاشتراكي ودوره في الدفع بحركات التحرر ببلدان العالم الثالث
من المبادئ التي قامت عليها الاشتراكية نبذ الاستغلال ورفض الإمبريالية التي سحقت الشعوب الضعيفة وأجهزت على كل حقوقها بما في ذلك الحق في الحياة، وقد شكل نجاح أول ثورة اشتراكية في العالم بروسيا القيصرية سنة 1917 بداية لمسلسل من الثورات ببلدان العالم الثالث تزعمها ثوار آمنوا بالاشتراكية ومبادئها الرافضة للاستعمار، بل لقد تأثروا بالقائد الجديد للاشتراكية “فلاديمير إليتش أوليانوف لينين” وبما خلفه من أدبيات، فمثلا قاد “ماو تسي تونغ” الثورة بالصين سنة 1949 وقلب نظامها الاقتصادي والاجتماعي إلى الاشتراكية وأسس لنموذج صيني شعبي اعتبر ناجحا، كما تمكن من إنهاء عهد الوصاية الإمبريالية على الصين، وفي مصر لبست ثورة الضباط الأحرار سنة 1952 رداء اشتراكيا حيث وضعت حدا لنظام فاروق الملكي وتمكن عبد الناصر من تأميم قناة السويس والجلاء النهائي لقوات الإمبريالية البريطانية عن مصر التي بلغت مستويات متميزة من التطور الصناعي والفلاحي في ظل المرحلة الاشتراكية، أما في كوبا فقد تزعم ملهما الاشتراكية بالعالم الثالث “فيديل كاسترو” ورفيقه “ارنستو تشي غيفارا” ثورة اشتراكية عارمة ضد نظام “باتيستا” المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية سنة 1959، بل لقد أصبح الرجلان رمزا للنضال ولكل الحركات المطالبة بالعيش الكريم والحرية، وتزعم “هوشي منه” الثورة الاشتراكية بالهند الصينية ( فيتنام حاليا ) ووجه ضربات قاصمة لقوات الإمبريالية الفرنسية، كما ظهرت تنظيمات وأحزاب اشتراكية وشيوعية ببلدان شمال إفريقيا وباقي البلدان العربية كتأسيس الحزب الشيوعي المغربي منذ سنة 1943 والذي قاد مسلسل النضال الوطني رفقة باقي الأحزاب الوطنية ضد سلطات الاستغلال الفرنسي الإسباني، وهذا يدل على أن الأفكار الاشتراكية بمبادئها الثورية لعبت دورا كبيرا في تعبئة وإنجاح حركات التحرر بالعالم الثالث. بيد أن انهيار المعسكر الشيوعي أواخر الثمانينات شكل ضربة موجعة تلقتها مختلف الحركات اليسارية والاشتراكية في العالم، كما زاد فشل النموذج الاشتراكي في تحقيق العدالة الاجتماعية، من حجم استياء البروليتاريا وفقدانها للأمل في بناء المجتمع الجديد، خاصة بعد تنازل روسيا عن الاشتراكية وتحولها لاقتصاد السوق، وتحول مصر للبيرالية، والشيء نفسه بالنسبة للصين الشعبية، وسقوط الشيوعية بألمانيا بعد توحيد ترابها، وظهور أحزاب يسارية تحالفت مع الأحزاب الليبرالية ما ضرب في العمق كل الأدبيات الاشتراكية الحالمة ببناء المجتمع الجديد، إضافة إلى فوز منتخبين اشتراكيين في بلدان تؤمن بالرأسمالية ولا شيء غيرها كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا ( رئاسة فرانسوا أولاند وقبله فرانسوا ميتيران للجمهورية الفرنسية الرأسمالية عن الحزب الاشتراكي ) واليوم نرى الرأسمالية في تطور ملحوظ بظهور ” امبريالية ناعمة ” تتجلى في إحكام السيطرة الاقتصادية بالكثير من بلدان العالم دون اللجوء إلى المدفعية والرصاص، ما بين محدودية النموذج الاشتراكي و(عقم) التنظير الماركسي الذي نظر من بين ما نظر إليه أن الرأسمالية مصيرها الزوال على يد ثورة ووعي البروليتاريا، غير أن هناك من يرى أن انهيار الشيوعية بروسيا كان مسألة وقت ليس إلا، لأن نجاح الاشتراكية كان يشترط بلدا صناعيا كانجلترا أو فرنسا حيث توجد الطبقة العاملة بكثافة.
بعد هذا كله حق لنا أن نطرح بعض الأسئلة المعقولة التي يتقاسمها الكثيرون بنوع من التأسي من قبيل: ما مصير الاشتراكية في العالم في ظل سيطرة النظام الرأسمالي على الاقتصاد العالمي؟ لماذا فشلت الاشتراكية في مقاومة المد الرأسمالي؟ بل لماذا فشلت البلدان الاشتراكية في تحقيق الرفاه لشعوبها وعمالها؟ ( فرار العمال من ألمانيا الشرقية الاشتراكية إلى ألمانيا الغربية الرأسمالية، تحول الكثير من البلدان الاشتراكية إلى الرأسمالية ) وهل صحيح أن الاشتراكية ظهرت فقط لتقاوم أطماع الرأسماليين وتقلص من جشعهم وليس لتحكم العالم كما نظر ماركس ؟ وهل يمكن الحديث عن انتهاء حلم بناء المجتمع الجديد ؟ وهل يسار اليوم قادر على لم صفوفه الممزقة والمتصدعة ؟.
مونصف الكلاني – أستاذ وباحث في التاريخ
جامعة شعيب الدكالي – الجديدة
اترك تعليقا