” نحن لا نرغم السياسي على أن يكون سياسيا ناجحا، بل نطلب منه أن يكون موظفا سياسيا فقط، لا مخاطبا متحذلقا، يغفل واجبه “
ما حملني لكتابة هذا المقال البسيط، هو لقائي التمهيدي بالباحث ” محمد أيت يدار“، حيت دار بيني وبينه حوار عائلي، رفقة طلبة مسلك القانون ومسلك الجغرافية واللغة العربية أبناء مدينتي زاكورة، يقينياً أعاد بي الحوار إلى لحظة كنت أؤمن بالحل السياسي أكثر ما أؤمن الآن بالحل الثقافي، لحظة كنت أعتبر فيها الحقل السياسي بمثابة حقل ممارسة حرة، حقل تغيب فيه كل الخلافات الذاتية والدينية، بل وحتى الموضوعية والحيادية، فيما كان العنصر الأهم في السياسة، التخطيط الاستراتيجي للمصالحة العامة/الوطنية، التي تمثل الإرادة الشعبية أحق تمثيل، وكذا دفاعا عن الحق بتطبيق القانون على الجميع، وفق إطار تنظيمي مدني.
فكانت أسئلتي على الشكل الآتي:
-
- هل بمقدورنا الإخراط في العمل السياسي بعيدا عن المفهوم المغربي التقليدي للسياسة؟ وأية خطة غير جاهزة تستطيع أن تفك رموز أزمتنا الحالية في مجال السياسة؟ وهل تشبتنا بقيم « تمغربيت » دليل على قدرتنا بل وعجزنا عن الخروج من مأزق سياسة المقدم؟
كثيرا ما يمتنع الباحثين والكتاب بل وحتى الفنانين والشعراء والمؤرخين وعامة الناس، من الحديث عن الحقل/المجال السياسي، بدافع أن المجال لم يعد مجالا يسمح لهم بإبداء آرائهم المختلفة وطرح وجهة نظراهم المتباينة، ففي اعتقادهم أن الرأي لمن يملك السلطة والمال، في حين يؤكدون بالوقائع الملموسة أن الحقل أو المجال السياسي أصبح يعيش أزمات: أزمة ثقة، أزمة مصداقية، أزمة الإيمان بالقضية، أزمة مبدأ…، الواقع أننا أمام معضلة كلاسيكية وجدة في الفكر السياسي المغربي منذ نشأته، معضلة لا يمكن أن نحسم فيها أبدا مادامت مرتبطة بميدان واحد، ألا وهو ميدان السياسة الذي يخفي وراءه مشكلات متعددة وإشكالات معقدة عقيمة. لكن؛ السياسة والثقافة والمجتمع المغربي أية علاقة، علاقة سطحية طعمها الفهم الخاطئ لمفهوم السياسة، فما هو شائع بين الأوساط الاجتماعية المغربية، أن السياسي والممارس لها هو لا يمثل إلا مصلحته الشخصية ومصلحة حزبه، مصلحة تسمو وتتعالى فوق حق منتخبيه، من أفراد وجماعات.
” الشاب الغير الواعي لا ينتخب/ لا يصوت .. عفوا! الشاب الغير الواثق من السياسة لا ينتخب ولا يرغب في ذلك!!.”
ناذرا ما نجد مجتمع عربي- إسلامي سياسي تائه في الفقهيات أو الخطابات الإيديولوجية أو الخطابات العلمانية في إطاره الواسع، له قابلية تقبل نخبة شابة تؤهله، فعندما يتكلم الإقتصاد تصمت السياسة، عندما يتكلم الكبير يصمت الصغير وعندما يتحدث الأب يصمت الابن، ليست هناك قابلية تبادل الدور وتطبيق مبدأ التنحي، ليست هناك قابلية استقالة الشيخ من مقعده لمنح الشاب إمكانية وفرصة جديدة، بل وانعدام إنصات الاقتصاد للسياسة، ضمن الأفق نفسه وعلى سبيل المثال، لا يمكن لإنسان قال لك في الصباح:( – صباح الخير)، أن يقول لك في المساء: (- متى سيطلع الصباح؟)، فهو مقتنع أن الصباح قد ولى ولليل أطول من أن يُعيد الصباح نفسه من جديد، نفس الشيء ينطبق عن السياسة المغربية الحالية، فهي تُمارس خارج السياسة، صباحها في مساءها ومساءها في صباحها.
الملاحظ أنه ولا حكومة تريد أن تحدث قطيعة مع هذا وذاك. وبالتالي، فأي شاب طموح يريد أن ينخرط بشكل دائم فيها يكون مصيره تكرار واجترار ما قاله أسلافه، أسلاف حزبه، فلا يمكن له التفكير خارج حزبه ولا حتى من داخل حزبه، مقيد طول مسيرته الشبه السياسية بمسلمات مرتبطة كل الارتباط بالزمان الذي وضعت فيه، لا الزمان الذي يناشد فيه التغير، وأي تغير لا مناص له من عطرات وأعداء وتقيم له القيامة.
من هنا يتضح لنا أن هناك فجوة عميقة واضحة بين الأحزاب السياسية المغربية فيما تصبوا إليه من أهداف وفيما يحمل كل واحد منهم من مبادئ، إن كانت هناك مبادئ أصلا، فجوة يصعب تداركها، فإذا كان لا بد من تداركها من لدون الشباب فإنه يلزمهم تخطي حاجز التقليد والتبعية السياسية.
دعونا نقول أن استخدام للفظ « تمغريبت» في الخطابات السياسية دليل واضح لسقوطنا في أخلاقية السياسة، إن كانت هناك أخلاقية سياسية، إلا أن « تمغربيت » كمفهوم شعبوي لا تعني فقط حب الوطن، لا تعني دائما ما يُقصد بها الآن، ليست حبر على ورق ولا خطاب شفوي، كما أن من يمارس السياسة راهنا لا يمثل في الحقيقة حياة منتخبيه، ما يؤكد هذا وتبعا لما قلناه؛ عُزوف الشباب عن الممارسة السياسية، غلبت أصحاب الاقتصاد على أصحاب السياسة، أولوية أهداف الفرد الخاصة على حساب أولوية أهداف العامة، حُلل السياسة الموسمية بدال السياسة المستمرة، إطعام البطون بدل العقول، استبعد الفكر السياسي من السياسة، إلا أن ما جعل الشباب عازفين عن السياسة هي الأحكام المسبقة المأخوذة عنها وتخوفاتهم من إبداء وجهة نظرهم داخل دائرة لا تقبل آرائهم ولا تأمن حتى بقدراتهم، سواء الفطرية أو المكتسبة أكاديميا.
مختصر الحديث، تراثنا الثقافي لا يؤمن بالسياسة، تراثنا الاقتصادي يعتبر السياسة وسيلة، وسيلة دون غاية تُعبد له الطريق لكسب مساحة واسعة أكثر داخل الدولة، تراثنا الفكري المغربي يتكثم ولا يستطيع مواجهة السياسي أو على الأقل كشف السياسة كما هي في الواقع، تراثنا السياسي أسير تجارب سياسية فاشلة، تراثنا الفلسفي لا يمتلك القدر الكافي من الجرءة لنصحت السياسة /السياسي، تراثنا الرياضي يعتقد أنه نتاج سياسة الشلل النصفي، تراثنا الفني يجسد السياسة في لوحة شمولية جامدة وضعت على الهامش.
شخصيا لا أؤمن بالنخبوية السياسية، ففي نظري، كل سياسي له ما له وما عليه، لا يستطيع أن يكون خارج إيديولوجية حزبه ولا حتى وضع يده على خرقات وفجوات وتجاوزات حزبه، ملزم أن يدافع عما يدافع عنه، من أفكار فردية حزبية وأهدافي الخاصة الشخصية، غير أني أؤمن بالسياسة كمجال حر يقاس بما أنجزه السياسي في سبيل الإرادة الشعبية وفي نسبة مشاركته في الحياة العامة. ولأن السياسة شيء أخر غير ما هو متداول، مغربيا، شعبويا، ربما نخبويا، يكون قليل البضاعة فيها يحاربها ويعادها دون أن يدري، لذلك فالواقع السياسي المغربي يكذّب ما يقوله السياسي في مجمل خطاباته ووعوده، نهيك عن هواة السياسة، الذين يخوضون في مجال السياسة على نحو غير سياسي، فيستعملون دون حرص، مفاهيم شبه أخلاقية/سياسية في غير موضعها.
لكن؛ أية صورة من صور السياسي هي الأصدق، هل حين يدافع ويكون هو المعارض أم حين يتعارض لدافع ويصبح موضوع المعارضة؟ بل حين يكون سياسي شعبه لا حين يكون سياسي حزبه، أسرته، جماعته، ذاته، قبيلته، مدينته، (حمُتيه/دربه)… ما قيمة أن تكون سياسيا في مجتمع يعتبر السياسي بمثابة لص؟، فالسياسي كالحائك الذي يكلف الغزالين والنساجين بأن يقوموا له الخيوط والأنسجة التي يحيك بها نسيج الدولة (التعريف الأخلاقي لأفلاطون)، وإذا سلمنا أن السياسة فن، فالسياسي أيضا كوسيط لا يمكن له أن يكون إلا ذاك، لا أقل ولا أكثر، ما عليه إلا القيام بواجبه السياسي اتجاه بلاده.
أخمن أنه حينما يبدأ الناس في العيش، عيشة حقوقية قانونية، نكون قد فهمنا كمغاربة، ما كان يُقصد بالسياسة وما كان يجب أن يُوجد في « تمغريبت »، كشعور وجداني بالانتماء الوطني الأبدي اللامشروط وكنقطة يتم الاتفاق عليها من طرف الجميع، كما أن ماهية السياسة حقيقة، لا زالت غائبة في أوساط الدكاكين السياسية، وهذا الغياب يتجلى في ممارساتهم الغير السياسية، في انتمائهم الحزبي الخاص لا في انتمائهم الشعبي العام. فلكي نحقق مستقبل نافع، مستقبلا يتم فيه تطبيق القانون موازاة توفير الحق، يجب أولاً: أن يفهم السياسي، ما السياسة؟، ثانياً: الأخذ بالفعل السياسي وبالممارسة السياسية مأخذ الأمانة الصادقة والضمير الحي والمسؤولية المرافقة للمحاسبة، ثالثاً: الوقوف على ثقافة السياسية على نحو ثقافي -سياسي، رابعاً: علينا أن نغير مفهومنا للسياسة ونظرتنا للسياسي الحيادي الأمين.
لحسن وحي – مدينة زاكورة
اترك تعليقا