-إنها نباتية
-مادا أتمزحين ؟
-لا إنني جادة
أبصر نظرة استغراب في أعينهن، كن يتهامسن وكأنني غير موجودة ،كنت مستمتعة برؤية وجوههن المليئة بكل تلك التساؤلات التي لم ينطق بها لسانهن، لكن عيونهن فضحت ما بجوف أفواههن …..
-هدا غريب ان عدم أكلها للحم لا يظهر عليها بتاتا ،أتراها تتبع حمية طبية؟ آو ربما لديها مرض يستدعي عدم أكلها للحم ومشتقاته ؟سمعت ان أصحاب السرطان يتبعون حمية لا يتغذون فيها على البروتين…أتراها تعاني سرطانا؟آه لا اعتقد دلك، ربما كانت فقيرة ولا تملك المال لشراء كيلوغرام لحما كل أسبوع ؟ ربما اعتادوا على عدم آكله ولهدا فان المسكينة اكتسبت المناعة ضده …ولا تستطيع معدتها هضمه الآن؟
اسمع قهقهاتهن الخافتة في القاعة،أحاول ان أركز على الطبق الملون بالخضراوات أمامي ،و الاستمتاع بمنظره الشهي، انظر إليهن فتلتقي عيوننا ،ترسم إحداهن ابتسامة نسويه مزيفة على شفاهها ،تستفزني ،أتخيلها على شكل البطاطس المقلية أمامي ،أحاول غرس فرشاة الطعام فيها متخيلة إياها تئن من الألم …. أفكر بخبث ،”هدا ما يجب ان يكون مصير كل من لا يرأف في كلامه بالآخرين”…اضحك من خبثي، أنا الإنسانة المعروفة بطيبتي وأتعجب من قدرتي على تخيل الأشياء…و احسد نفسي على هده السعادة اللحظية التي تمنحني إياها أفكاري الإجرامية في سبيل الحق…اسرح بخيالي أكثر، أتخيل نفسي “زورو الأنثوي”، بقبعته السوداء وقناعه ولباسه الأسود …فارسم على جسد البطاطس المقلية رمز “زورو” …اضحك من جديد، لكن الآن بصوت مرتفع …يا الهي سيعتقدون ان عدم أكلي للبروتين جعلني مجنونة …ارفع راسي…أجدهن منغمسات في حديثهن مع “الشيباني”، اسميه هكذا تيمنا بشعره الرمادي ، فرغم سنه الصغيرة إلا ان الشيب يغطي شعره بالكامل ،المفروض ان يكون الشيب رمز وقار، إلا أنني أجد شخصه بعيدا كل البعد عن الوقار ،فكلما نظرت إلى جهته وجدته مشغولا بوجه جميل يمر أمامه وبمؤخرة تتراقص هنا وهناك ونهد ضاقت به الملابس ويسأل صاحبته الخروج، يبدأ بالتحدث عن زوجته السابقة،يخبرهن بأنها لم تكن تعرف ان تطهو له بيضة وبأنه يمقت وبشكل كبير النساء اللائي لا يستطعن الطهي ….”كيف لامرأة على وجه هده الأرض ان لا تتعلم الطهي؟ ألا يفكرن انه ربما يتزوجن مستقبلا وبأنه محتوم عليهن الطهي لأزواجهن ؟ آه أمي الحبيبة، تغمدها الله برحمته، كانت تدللنا كثيرا كانت تطبخ لنا “الرفيسة” ، “المروزية” “اللحم بالبرقوق” “….يعيد صياغة جملته مركزا على اللحم هده المرة “لا لا استطيع ان أتزوج شخصا لا يستطيع طهي اللحم فكيف بشخص لا يأكله”… اسمع ضحكاتهن…يمر من أمامي راحلا …ينظر إلى جهتي وكأنه يكلمني …”آه لقد فقدت الأمل في إيجاد أياد ماهرة مثل أيادي أمي الحبيبة”…انظر إليه فاتدكر مقولة أنيس منصور عن الزواج… “الزواج هو أن تقوم امرأة بتبني طفل ذكر بالغ لم يعد باستطاعة والديه التعامل معه والسيطرة عليه”…اضحك تم انظر إلى طبقي مرة أخرى … أتناول حبات “الجلبانة” المترامية على أطراف الصحن، تم انهشها بين أسناني أتخيلها زميلي “الشيباني” هده المرة ،انظر إليه نظرة نصر وأنا ارسم ابتسامة بالكاد تكون صفراء على وجهي، انه مغرور لكن طعمه لا بأس به ،اضحك من جديد بيني وبين نفسي …تم أحاول الإسراع في إكمالي طبقي قبل ان تنهال علي أسئلتهن…
-منذ متى اكتشفت انك نباتية ؟
-مند كنت صغيرة ،لم أكن أحب رائحة اللحم المطهو ،كنت اشعر بالغثيان كلما أكلته ،والحقيقة أنني كنت أنا الوحيدة التي تشم تلك الرائحة ،إخوتي وأمي وأبي كانوا يأكلونه بطريقة طبيعية ، الشيء الذي جعلني استبعد كونه شيئا وراثيا …كنت كلما هممت بوضع قطعة من اللحم في فمي ،أصبت بدوار في راسي ،ومغص في معدتي …
-كنت صغيرة جدا ،الم تحاول أمك طهيه بطريقة أخرى ،وتضع فيه بعض المحسنات الذوقية …
-بلى ،فعلت ذلك، وقد نجح الأمر لوقت قصير ،لكن كلما كبرت شعرت بنفسي تعيفه و أحسست بعدم رغبتي في أكله أكثر ،لم أكن مريضة كما يعتقد البعض ولم أكن افعل هذا لإثارة الانتباه كما كان يقول إخوتي ،لا …كنت ارفض أكله وبشكل كبير لأنني ببساطة لم أكن أحب مذاقه ولا رائحته ،وكان يزعجني كثيرا تحدت أمي عن ذلك …كنت اعتزل “العزومات” التي كانت تقوم بها…حتى لا يتم ذكر الموضوع …
-آه لا بد أنها كانت طفولة قاسية …
-ربما، لم اعد أتذكر الأثر الذي غرسه الاختلاف في داخلي ،لكني اليوم سعيدة بأنني نباتية ،ان تكون فريدا من نوعك شيء جميل… رغم ان الأمر يستدعي بعض السخرية في كثير من المواقف …فمثلا كنت جالسة أنا والعائلة مرة، إذ بابن أختي يخبر أخاه في أدنه، بأن خالتهما حيوان عاشب …نظرت إلى جهتهما فوجدتها ينظران إلي بريبة، ويخفيان ضحكتهما الشيطانية ….ضحكت كثيرا حينها…و قد تحول الأمر بفضلهما ، إلى نكتة مضحكة، نتداو لها كثيرا في الاجتماعات العائلية …
نظرت إلي التي كانت تستفزني منذ البداية، كان وجهها مملوءا بالحبوب،تذكرت هده المرة أيضا ابن أختي المرح والذي اخبرني ان زملاءه يسمون زميلتهم “بطبق العدس”، لكثرة حبوب وجهها ،كنت قد أخبرته ان هدا عيب وألا يسخر من زميلته خاصة ادا كانت فتاة، وأنا اتدكر جيدا أنني وقتها أسرفت في وعضه ،رغم أنني اعرف جيدا انه لم يلقي بالا إلى ما كنت أقوله،فقد كان يضحك حينها غير مكترث بالمرة، ربما أنا اليوم افهم ابن أختي جيدا، لا بد ان مخيلته كانت واسعة ،فها أنا ذا أجد في تخيل “طبق العدس” يملا وجه محدثتي شيئا مسليا … كتمت ضحكتي ،و سألتها بكل جدية ما السبب ؟ فأخبرتني ان بشرتها ذهنية ،وأنها تعاني من هدا المشكل منذ صغرها…نظرت إلى طبقها ،فوجدته مملوءا باللحم تتوسطه قطع من البرقوق والجزر المقطع إلى مكعبات صغير …
-ربما عليك ان تتبعي حمية غذائية وتكتري من الخضار أكثر ،أرى انك تحبين الجزر وهدا شيء جيد لبشرتك،لكن، ألن يكون من الأفضل لو اكترت منه ،بدل تلك القطع الكبيرة من اللحم المليئة بالدهون… فجسمك مملوء بالدهون كفاية ،ربما عليك ان تجربي نمط الغداء النباتي،لتحصلي على بشرة أجمل…
لمحت وجهها وفكها الذي توقف عن حركة المضغ ، نظرت إلى صحنها ،تم إلى زميلاتها ،أحسست بإحراجها الذي ملأ وجنتاها احمرارا، كنت قد أكملت طبقي، فهممت بالرحيل،هاربة من وقع المعلومة عليهن… ألقيت السلام عليهن ،وتركتهن يتهامسن خلفي …وأنا اشعر بانتصاري…
-أيعقل أن يكون سر جمال بشرتها عدم أكلها للحم ؟
لا ادري ان كانت الفرضية التي ألقيتها في أدانهن صحيحة ،لكن رغم دلك أحسست بأنني انتصرت على استهتارهن واستفزازهن ..و فوجئت بهن في اليوم التالي ،يحملن أطباقاً مليئة بالخضراوات …واكتشفت بعد دلك ان “طبق العدس” قامت بالبحث على الانترنت ووجدت ان الامتناع عن أكل اللحوم خاصة الحمراء يؤدي إلى تحسن في حالة البشرة ونقاء في الوجه و أخبرتني أنها قررت ان تتبع نظاما غذائيا نباتيا …وطلبت مني ان يبقى سرا بيننا،فهي لا تريد ان تكون موضع سخرية احد…أخبرتها أنني سأحفظ سرها وبأنها يمكن الاعتماد علي في إخفاء دلك…ومند دلك اليوم أصبحنا صديقتين …ولا أخفيكم أنني كنت من محبي طبق العدس كثيرا …لكني الآن لم اعد أطيقه.
لطيفة محفوظ كامل – مدينة الدارالبيضاء
اترك تعليقا