الحي اللاتيني.. رواية للكاتب اللبناني سهيل إدريس، يحكي فيها عن نفسه، الفترة التي قضاها في فرنسا حينما كان يتابع دراسته هناك، يحكي عن جزء مهم من حياته، عن التحول الذي طرأ على حياته، عن التقاليد المشرقية المنغلقة ببلده لبنان، والانفتاح الأوروبي في الحي اللاتيني بباريس بفرنسا.
لم تكن رواية الحي اللاتيني إلا السيرة الذاتية التي وظف فيها الكاتب طاقته كي ينقل لنا التفاوت الثقافي والاجتماعي والحقوقي والحرياتي بين الشرق والغرب، لقد سعى إلى إبراز التقاليد المشرقية التي تسيطر على الإنسان العربي وتحد من حرياته والاختيارات التي يكون عليها فيها الحياة، لأن النسق المجتمعي الذي يولد فيه الشخص العربي لا يسمح له بالقيام بالكثير من الأشياء التي اكتشفها الكاتب من خلال تجربته بالحي اللاتيني، فالإنسان المشرقي مقيد ببنود الأسرة ومكبل بالتقاليد والأعراف التي لا تسمح له بممارسة حرياته بالشكل الذي يريد.
فالكاتب سهيل إدريس يبحث عن ذاته بعيدا عن المجتمع الذي ولد فيه وتعلم فيه المبادئ الأولى، من خلال العلاقات التي جمعته بالنساء الفرنسيات، فهو بشكلٍ أو بآخر وجد ذاته في المرأة، التي حُرم منها في بلاده لبنان، وجد علاقات الحب العابر والجنس أيضا بعيدا عن الزواج، فكان الحي اللاتيني بباريس في فرنسا المكان الذي غير معالم حياته المشرية وفتح له نوافذ عالم جديد مغاير لما عاشه من قبل، فبات المكان الذي ارتبط بالوجدان والقلب، وذلك الكيان الجديد الذي يغطّي الفراغ الذي كان يشعر به، وذلك من خلال المرأة والانفتاح والحرية.
لقد حاول الكاتب سهيل إدريس من خلال هذه المقارنة بين الغرب والمشرق، الثورة على القيم والتقاليد والأعراف التي تسود وتسيطر على المجتمعات العربية المحافظة، وفي مقابل ذلك دعوته إلى تجريب الانفتاح وممارسة الحريات دون كقيود كما في الحي اللاتيني، ولعل تعله بالمكان والمرأة هناك جعلاه يغير من نظرته إلى الواقع، ويتمرد ليكون القلم الحالم والحامل للتغيير، فلم يعد قادرا على الرجوع إلى الوراء والاستجابة لقيود العائلة والمجتمع، حيث اختار الزواج من فتاة فرنسية عوض قبول رغبة أمه، وزواجه من إحدى بنات حيه التي اختارتها له أمه منذ الطفولة، كما تمرد أيضا على ثقافة العذرية التي لم تعد همه الذي كان يشغل باله ولا الرغبة التي يريد تحقيقها، لقد أصبحت العذرية بالنسبة له لا شيء كما القيم والتقاليد التي تعلمها في المجتمع المشرقي الذي ولد فيه.
لقد خاض سهيل إدريس تجارب عديدة مع المرأة الغربية، منها الفاشلة ومنها الناجحة، ومن خلال هذه التجارب، تمكن من فهم المجتمع الفرنسي الذي تخلص من كل القيود، لكن وبالرغم من ذلك كانت المرأة جزء بسيطا مما كان يطمح له الكاتب، حيث يقول لصديقه فؤاد عن هوم النساء في حياته بالقول: «لقد أضحت المرأة أحد همومي، ولكنها ليست همي الرئيسي»، فبعد كل هذه التجارب بات أكثر وعيا وهما لإحداث نوع من التغييرات في مجتمعه، لقد بدأ ينظر إلى كنه الأشياء، بعدما توصل من خلال هذه التجارب إلى مشكل العروبة والوطنية والنهضة، الذي يكمن بالأساس في عدم التحرر من القيود والسعي نحو الحرية والثقافة الديمقراطية التي تكاد تنعدم في المشرق.
إن رواية الحي اللاتيني، هي بحث في عمق الإنسان العربي المشرقي ومعتقداته، وامتحان لما تعلمه من الخميرة المجتمعية في عالمه العربي المحافظ، فالقيم التي تربى عليها البطل تحرم من الوصول إلى ممارسة ما تهواه نفسه، فيكون بذلك بعيدا كل البعد عن ذاته، ولهذا فإن أغلب العرب يجدون في مجتمعات الغرب ذواتهم وحياتهم الأخرى، فالإنسان لا يُمكن أن يجد ذاته ويصل إليها، دون أن يخفي حاجاته الطبيعية، والتي لا بدّ من ملئها عن طريق المرأة والحب والحرية، حيث امتلأت الرواية بفلسفة عميقة للحب والمرأة، فكانت مثخنة بهذه التيمة، تحوي التفاني والإخلاص وغيرها، وذلك ما تختصره هذه العبارة ربما: “وكان الليل مملكتهما الأثيرة، يركنان إليه ليتلذّذا فيه بالدفء والظلام والحب. هذا الحب الذي لم يعرف إلا أحد شطريْه: فإمّا النشوة الروحية وحدها، وإما اللذة الجسدية وحدها، بل هو لم يعرف أيّ الشطرين إلا في أسوأ أشكاله: إما كبت وانغلاق وتأكّل، وإما أنانية وحيوانية وانحطاط. ولم يكن يتصوّر أن بوسع إنسان أن يدرك إلى جانب أنثى، اللذتين كلتيهما، كما أدركهما هو إلى جانب «جانين»….ثم وكانت هي من رهافة الأنوثة بحيث كانت تعي كيف تُعالج الأخذ والعطاء، وكيف تدفع الضجر والملل بتغليب إحدى اللذتين في الوقت المناسب.”
إلا أن الرواية لم تخلو من الغربة والاغتراب، الحنين إلى الوطن، بالرغم من كل الانسلاخ الذي أظهره الكاتب عبر فصول الحي اللاتيني، فهذه الرواية مجدا وصوتا قويا في خمسينياتها لأنها تمكنت من محاكاة تلك الفترة من غربة و تغرب الإنسان العربي المشرقي في باريس طلبا للعلم، حيث تنتهي الرواية بنهاية غريبة بعض الشيء، يعود الكاتب للعالم الذي ولد فيه، لعالم الشرق و لدياره حائزًا علي الدكتوراه ليتقلّد منصبًا رفيعًا و ليتزوّج كما تريد والدته، تاركًا الفتاة ( الغرب) في تيهها و ضياعها، حاملا أملا جديدة لواقع يأمل أن يتغير للأفضل دون التخلي عن هويته المشرقية، فالحي اللاتيني ونساءه مجرد نزوة عابرة.
عبداللطيف ضمير – مدينة الجديدة
اترك تعليقا