لم اجد ما أستهل به حديثي حول الطفولة أسنى مما فاه به محمود سامي البارودي في مطلع قصيدته حيث قال :
ذهب الصبا و توَلَّت الأيام
فعلى الصبا و على الزمان سلام
تالله أنسى ما حييت عهوده
و لكل عهد في الكرام ذمام
انا الآن أداعب لوحة المفاتيح تحت اشعة شمس خافتة بعد ان اهتز هاتفي على ايقاع رسالة من “متاهة الحب” للسفر إلى الماضي على متن القلم و المذكرة.
حسنا؛ سأحاول سبر اغوار الطفولة في مجتمعنا القروي المغلق، و ساعود القهقرى و اتسلق سلم الماضي لأكشف لكم عن تنشئتنا الاجتماعية باعتبارها النظم التي اكتسبنا من خلالها الحكم الخلقي و الضبط الذاتي.
إن كلماتي ستلامس قلوب البعض و سيجد نفسه بين سطورها كونها تجسد مفهوم ” الرهاب الاجتماعي ” الذي بات يشكل عائقا للبعض في محاولة منه الاندماج داخل مجتمع مغاير لما تربى في أخضانه.
فانا ذاك الطفل الصغير متثاقل الخطى الذي بلغ سنه السابع، يرافق اباه إلى المدرسة متأرجحا بين الدهشة و الذهول و بين الخوف و الهلع، فهذه الأخيرة تشكل تهديدا لكيانه و تموقعه حول ذاته المقدسة، أنا الفتى الذي يحاور ساعته كل دقيقة داخل الفصل هروبا من واقع لا خيار له في تبديله، و انا التلميذ المتيقن من إجابته لكنه يحتفظ بها لنفسه خوفا من التنمر، كيف لا و قد عُلِّمت و نُشئت على أن كلامي يخالف الصواب دوما (سكت اش عارف .. حيت يكونو لكبار كايهضرو صغار يسكتو … ) و هلم جرا من العبارات المنقوشة في ذاكرتي المهترئة، و انا ذلك المغلوب على أمره ينتظر يوم بطالة ناشدا التحرر و الانعتاق من قيود و رتابة الدراسة، بإيجاز يا سادة أنا مجتهد في حمل الرحى لا في حمل خردلة أنهى دراسته الابتدائية و لم ترفع يده قط.
على غرار المدرسة فالاسرة لم تكن أهون منها، فالعقد المبرم بينهما ( سلخ و انا نگزر )تبيانا لكل شيء، سلطوية الأب باعتباره الآمر و الناهي بمقولته المعتادة (العصى لمن عصى) و تخويف الام بكشف افعالك له.
انا طفل صغير تعرض لقمع منزلي و عنف و تنمر مدرسي، كدت ان اتحول إلى مضطرب او منحرف كبير، طفل أوصدت أمامه أبواب النقد و الرفض و إبداء الرأي و التساؤل و الحوار، و فُتحت أمامه أبواب القمع و الوعيد و التخويف.
طبعا أنا و انت و هو و هي كلنا إفراز موضوعي للتناقضات المجتمعية الحاصلة داخله، لكن بالله عليكم كفانا من إعادة إنتاج الأطفال بالقالب البالي نفسه، فهناك قوالب اخرى تعمدو إخفاءها سهوا.
أصدقائي لقد طفلت الشمس و مالت للغروب و حان الوقت لتوديع طفولتي الخجولة و العودة إلى شبابي الأخفر، لكن قبل ذلك اود ان اخبركم أنني قاومت الطفل الصغير حتى لا نكبر سويا فتركته في منتصف الطريق و انا عائد من ذاك اللقاء الذي احمرت فيه وجنتاي لأخر مرة.
محمد حمداوي – مدينة الراشيدية
طالب باحث في علوم التربية و علم النفس الاجتماعي.
اترك تعليقا