تهاويم فجر ساطع على برد ديسمبر المطير …
كان الكل على قارعة طريق ، وعلى حوافي جسر شبيه بالذي تركه حصان منيف أو حصان نتشه … هكذا كنا ننتظر السُّقوط جميعا . فلازال نثيث ٌميََََّادٌ من مطر ناعم يغلف أحلاما رطبة كغريف أمي أو خبز أمي ، ويخرج بخارٌ أبيضُ من أنوف أحصنة فقدت ، للتـَّو ، فارسها في وغى وطيس . من دون استئذان خطاب المقدمات هذا ، في الرواية العربية ، يعلمنا الصبر والجلد ، بل عندما يستدلون ويتحججون ب” هكذا تكلم زرادشت ” نكون على أهبة كالساموراي أو كجلاميدَ صخور حطها سيل امرئ القيس من عل . لم تعد ترهبنا هكذا كلمات وعبارات ، فأبطالها ـ أي الرواية ـ من ورق ، بل يلعبون الورق في “راس الدرب” ، ويتجسسون على المارة . ففي غضون حكايات قديمة ، مثل التي تسوقها الأساطير، تحدثت امرأة عجوز ، بعدما تحلق حولها نفر من الناس ، عن أدب يخاطب واقعا غير موجود أصلا ، نبني به قصورا من رمال ؛ فتذوب كما ذابت ” مدن الملح ” .
جاءنا نبأ أن أعراب جزيرة العرب ، في وادي العيون ، كان لهم منطلق نحو اكتشاف تيه ؛ أخاديدُ وأودية جف ماؤها . فلا عريش يستظل تحته تائهون و عارفون وعابرون في اللغة والتاريخ ، فوادي العيون فيه مدافنُ لأقوام آفلة تحكي عن زمن ما قبل اكتشاف ” اللعين ” . استضاءة لهذا المنعطف التاريخي المبجـَّل ، جاءتنا عوالمُ بلا خرائط تقول :
” ـ اذبح يا علاء … الدَّم يطهـّر كل شيء … اذبح
رددت وراءها باستغراب وتساؤل
ـ اذبح خروفا … ديكا … المهم أن ينزل الدَّم…”
فلا علاءٌ علاءُ ، ولا نجوى نَجوى ، ولا دمٌ دمُ … إنها لعبة خرائط إذن ؛ فالإنسان خريطة والعلاقات خرائطُ ، ويبقى الضمير بلا بوصلة … نحوك أيـَّتها الحرية .
هذه تهاويمُ تعمل في فجر ساطع على برد ديسمبر المطير .
هنا ، يقفو أثر الساسة ظلهم الملعون ، وعشيرة العتوم لا مكان لها في هذا الفيء والعريش الظليل … أو في هذه الصحراء الفانية . كما العتوم كما السوالمة عشيرتان ارتـهنت ، هذا الوجود والكون الفسيح ، بالتراب والدم ، وعفرتهما على وجوهها .
قيل إن الجد الأكبر ، في ” عالم بلا خرائط ” كان مجنونا ومخبولا ، فعندما نبحث عن جذورنا نجد ، دائما ، متشردين يعيدوننا دوما إلى طبيعتنا الأولى ؛ بدو رحل ، مشاءون في تاريخ الإنسانية . حفاة . عراة . فهذا ما سنـَّه جورج أورويل في ” متشرد في باريس ولندن ” . فالتشرد ، أيها الساسة ، فلسفة حياة ووجود ، فعندما أعيش التشرد فأنا موجود ، أو بعبارة أخرى ؛ كوجيطو يساوي هذا و ذاك ” أنا متشرد إذن أنا موجود ” .
عرف جورج أورويل في مساره الحياتي بانتصاره الكبير و اللامشروط للاشتراكية الديمقراطية ، فعندما تغيب ، في نظره ، العدالة الاجتماعية ، ينبثق التشرد ؛ ونعانقه كما يعانق الكوالا السنديان . لماذا يأتينا ، إذن ، هذا الجد الأكبر ، من سديم ، من غياب ، من عدم ، من جنون ؟ ففي التشرد عند أورويل سياحة في عوالم الفقر والفقراء ، بل موت انتزعت منه أزلامه . يحف هذه الأصول ، في السرد العربي ، غموض و قتامة ؛ لترتفع بها إلى سنم الجنون . يقول واسيني الأعرج في سيرة المنتهى ” جدك لم يقل لي شيئا عن ذلك . الروخو المعشوق لم يعرف في حياته ظلا ، لقد كان سيد الشمس . يذهب نحوها كل صباح قبل أن تشرق محملا بعتاده ولا يعود إلا عندما يراها تنحدر نحو البحر ، بلباس من ندى الليل وزهرة الرمان … جدك كان يشبه كل شيء في الأرض …” . علاوة على ذلك ف ” سيرة المنتهى ” ملحمة الرحيل و الترحال ، بما هما جزءان لا ينفصلان عن ذاكرة تاريخ السرد العربي ؛ نزوح المورسكيين ، وتشردهم على ضفاف المتوسط ، يصبح له وقع خطير، خصوصا عندما تندغم السيرة بالتاريخ . فالبحث عن الأصول هو تأصيل للعمل السردي ، الذي يتراوح بين الشك واليقين ، بين الحقيقة والغياب .
إن حضور الخيال في السرد العربي غالبا ما يجنح نحو هذه القتامة و السديمية ، التي تلف الأصول الأولى ؛ حياة البدايات التي تكون مزيجا من الرؤيا و الشيطنة و البوهيمية ، وهذا ما نلمسه أيضا عند الروائي محمد الأشعري في ” جنوب الروح ” ، عندما أراد أن يؤصل بدايات منطقة زرهون . بالشخصية الرئيسة ، ” محمد الفرسيوي ” ، دخلت الرواية عالم الجن ومضاجعة المحظور ، يقول الأشعري : ” صار الفرسيوي مرة أخرى مثل حصان جامح لا يقدر عليه إنس ولا جان . وصارت الجنية تأخذ له هيئة المرأة التي يشتهيها ؛ فينام معها ليلة كاملة ، وهو يقلب عليها أنواع النكاح حتى يأذن الله بالصبح . فلم يترك امرأة في الريف ولا بومندرة . لم يترك امرأة يعرفها ، ولا امرأة مرت في الطريق فاستهوته إلا أحضرتها سوالف على صورتها وطبعها وكلامها وحركاتها وسكناتها … ووسوس الشيطان للفرسيوي فصار يطلب من سوالف العجب العجاب ، وهي تقول له أنا بالله و الشرع معك ، ستسقط ذات يوم في المحظور … “
لا تستطيع الرواية أن تشكل هذا المحظور إلا من خلال العلاقة التي تربط بين الرغبة وجنون العظمة ، وإن كانت تتجسد في العلاقات الجنسية العابرة ، التي خاضها محمد الفرسيوي وهو نزيل ” بومندرة ” و ” بوضيرب ” . إن هذه العلاقة ، التي ربطها الجد الأول مع سوالف ، تكشف مدى التحول الجذري ، الذي طال القوة الجنسية عند الفرسيوي ؛ ليعود إلى هموشة ، وقد أصبح حرونا كالثور الهائج .
وبالفعل ، استطاع جورج أورويل ، في مقارنته بين التشرد و الجريمة ، أن يرسم طريقا أمام الروائيين الجدد ؛ كي ينحتوا شخوصا قادرة على السفر المكوكي بين الحقيقة والغياب أو بين الموت والحياة على ضفاف المحكيات . وفي ذلك تنكشف أصول وتغيم أخرى في ظل ترسبات تتشكل من خلال قراءاتنا المتعددة لنصوص عابرة ، شكلت القاعدة والاستثناء في الآن نفسه على الطريقة البريختية.
رشيد سكري – مدينة الخميسات
اترك تعليقا