موت قديمة تصافح الروح :
آخر نفس تستنشقه في الحياة
تلهث طلبا للهواء
دون أن تحصل عليه
صراخ حولها
لا تبصر شيئا
سوى الظلام
أنين …أنين
أنينها
تود لو تخبر أحدا بآخر كلماتها
بما كتمته طوال حياتها
لمن ، و الآن كل شيء قد فاتها
تغرقها الحياة
ليس في الماء
لكن في سوائل ذاتها التي كانت عمرا منبع كل غذائها و طاقاتها
لم يكن أحد يأب مقابلتها بندوبها
و الآن يلكمون أحزانهم لندوبها
من هم؟ لا ندري ، ربما من أمسك بها يوم سقوطها في شارع الأشباح ، أو من طببها خلال فترة مرضها من سم الحياة ، لا يهم .
يقول أحدهم : إن أردت فهم ماهية الموت ،فعليك فهم آلية الولادة أو ما قبل الولادة بقليل .
الروح أيها الأحياء لا تعرف معنى الوقت
ولا الوقت يدرك أهواء الروح
لن يتسنّ الوقت لرؤية أضوائك و نجومك ، ولا حتى ظلماتك بين أضوائهم
لن يكون لشيء أهمية
عدا نفسك التي تركتها تسبح بينهم .
رائحة تفوح من مسام وجهها الصغيرة ، إلجام صوت الموت الصادح داخل جمجمتها ، لم تفكر في انتشال نفسها من لجته التي تفتك بها . تزاحمت الأحداث في ذاكرتها فعصفت بكل هذا التاريخ ، عشرينيات شاخ فيها و بها المكان و العمر ، كل من نظر إليها و كأنها في السنوات السبعين اللعينة ، جرعة مرارة سقتها إياها الأيام .
بعد كل جرعة تحقن بها أوردتها ، تتجرع سموم الحياة بيمناها تاركة خيوط الألم تلتصق بعنقها ، تمسح فمها يسرى بعد أن خدشته كالليث الهائج ، يختلط سيل دموعها الجارف مع دماء لزقت على وجهها الشاحب في ابتسامة مصطنعة تخفي ندوب عميقة .
الأيام تتشابه و الليالي تتعاقب عبثا ، و المرض نخر في عباب أنوثتها الراقصة ، تمتص نسغ الحياة أملا في استعادة القوة .
تبرأ الجسد ، تساقط الشعر ، نحلت أكثر من ظلها ، قرصة برد في غير موعدها ، حجر ثقيل ينمو فوق نبات الصدر و الطير يبني عشه ، تتمطى ، تتثاءب ، تلعن الظلام و أنفاسها تتحشرج .
جفت الأفواه و بدأ العطش يأخذ قواها ، شبح الموت يرقص على خرير عطشها و يرتوي من دمائها ، يلعب على بصيرة الصغار ، افترشته في انتظار النهاية متمتمة بلعنات على قدر لفقوه لها في السريان يجرفها إلى حيث يشاء .
الكل ينتظرها تبتلع ريق الموت و تتمايل على نغمات السكرات ، ترقص كالثمل العائد من الحانة من الألم ، حتى تمتد على ناصية لحدها ليبدأ الصراخ و العويل ، يرتجلون مسرحية ومضية : ضاعت منا ! لم نستطع إنقاذها …
المستشفى يعج بالوحوش الشرسة ، ترتب و على ثيابها رائحة العروسة و في فمها معالق العسل ، في أجيابها نسيم السعادة . أحديتها سوداء كأنه حفل ولادة مسخ الشيطان .
كلماتها تشنق الحق و الصدق بنفس الحبل ، تقتل النخوة على أيدها و يتحرر النهب و الفساد من بين أصابعها ،دسائس المرتشين المفضوحة ، المتغطرسين عشاق التطبيل .
تساءلت الضحية و الغصة تخنق عنقها :
ماذا جنيت من كل هذا ؟ ماذا أهدتني الدنيا و ماذا أهديتها ؟ ضجيج صاحب يشنق رأسي ، بيني و بين الحياة خيط رقيق كحبل الغسيل . كل شذرة أمر بها تطمس نجمتي ، يبدو أنني أدفع ضريبة الشهيق و الزفير ألما .
مسكينة الصغيرة ، الموت اغتصبها و قبلت مداعبته لها ، تركت جسدها له دون مقاومة ، عبث بروحها حتى مل فتركها لميعاد قادم ، لم تكن تفكر البتة في إنقاذ نفسها من معمعته مادامت رائحته قد تعطرت بها و الريق قد طلم وديان الألم و هضاب البؤس .
الوجه؟ آه كم أحبته ، كلما نظرت إلى صورة قديمة قالت “كم كنت جميلة، لقد كبرت لسنوات كثيرة حتى صرت لا أشبهني كمدينة دوت بها مدافع الحرب ، هجرني الأصدقاء و الأحباب ، حتى من رآني يوما مثل روعة سحاب الأتون تركني بعد أول خسارة لي و التي فقدت فيها عيني اليسرى و لم يلقي علي تراتيل الوداع .
الوداع ؟ أ نودع الغمام فوق محطة القطار أم نلقي السلام على المقابر ، أنودع الفراشات المرفرفة أم الصباحات المشرقة ، أنودع رائحة البن أم الصمت و الحنو و النظرات المطولة إلى الأبواب.
ماذا عن الأم التي جعلت من السماء ظلا و الأرض فراشا و حضنها غطاء .
ذلك الأب الذي رفس المستحيل تحت نعله ، صفق التعب و عانقه العرق ، الذي افترش لنا عراءا فاستلقينا بين أحضان المتعة .و الحبيب الذي رسم لوحة مزيفة على الوجنتين تفطر فرحا ، فسالت ألوانها دمعا يوم اللقاء الأخير .
كم نحن مثيرون للشفقة ، نعيش المآسي نفسها ، قصص الحب التعيسة نفسها ، دمى في يد أقدارنا و سجناء لا وعينا و أفكارنا المكبوتة ، عازمون على أشد المخاطر ، نابذون لماضينا ، أشباح الموت مهيمنة على أنفسنا ، ننسج لحمة مصيرنا ، غارقون في بحر مواجعنا كغواص خشيم في بركة ماء أعمق من طوله .
متعطشون للرحيل كصائم قبيل آذان المغرب متعطش للماء .
قال بصوت خافت و الموت قد سكنت أضلعه :
المجد ! المجد !
المجد في النهاية لمن ركل العالم بكل ما فيه من قسوة .
هربت الدماء خارج الشرايين … نظر بوداعة ووداع … أمسك بأجنحة الملائكة ….جاء القطار مؤذنا له بالرحيل …. نقز إلى مقعده بكل خفة و سرور … داس القطار على الوحوش و مضى إلى غير رجعة ، كم كان الموت رحيما به!
أعتذر لانجرافي بالكتابة ، فالحمى بدأت تغازلني و الصباح أوشك على الإشراق و جسدي في قبري ينتظرني احتفالا بضيفنا الجديد .
شجرة الميلاد أضاءت
الدماء ، الأحشاء و الضحايا .
خديجة الإدريسي – المغرب .
بوح رائع، دام الإبداع.