بعد قراءتي لروايتي” الموريسكي” و “ربيع قرطبة” للكاتب المغربي حسن أوريد، وبعدها الرواية الشهيرة “ثلاثية غرناطة” للكاتبة المصرية رضوى عاشور، أصبحت منكبا على قراءة المزيد عن الأندلس وتاريخ العرب والمسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، جاء الدور هذه المرة على الرواية الأندلسية الأخرى، التي تشدك من خلال عنوانها، ” البيت الأندلسي”، لكي تعاود الغوص مرة أخرى في تاريخ الفردوس المفقود من أجل البحث عن درر من بحر هذه الرقعة من القارة العجوز التي كانت تحت سيطرة الحضارة العربية الإسلامية، فالروايات التي ذكرت كلها تحمل هم رماد التاريخ لتوقد فينا مجدا ممكنا في المستقبل وتذكرنا بماضي الأجداد المجيد، بعدما وصل بنا الحال للقاع.
ولا أنكر أني أعجبت بالرواية منذ قراءتي العنوان على صفحات إحدى المواقع الإلكترونية، وكنت حينها أعرف صاحبها دون علمي بما يكتبه، وخاصة عن الأندلس الذي أعتبره جزء من هويتنا الإسلامية العربية، وقد كانت هذه الرواية بمثابة الصفحة الأولى لأكتشف كاتبا كبيرا كواسيني الأعرج، في بيته الأندلسي من غير تكلف في الأسلوب، وبرصانته اللغوية المثخنة بالتاريخ، في أكثر من 400 صفحة، كانت جزءا مهما من تاريخ ممتد لأزيد من ستة قرون.
إن الكاتب يحاول أن يستميل فينا ذكريات الماضي، بكل هوياته ومآسيه، بعد فقدان الأندلس الذي شببه في الرواية بالبيت الذي يفقد ذكرياته الجميلة كلما فقد بناته وساكنيه، فتروي الرواية لنا حكاية بيت أندلسي قديم عاشت فيه ذكريات عديدة، و أجيال كثيرة كانت شاهدة على فترات تاريخية مختلفة، و أحداث ترويها جدرانه، كما يروي لنا الأندلس اليوم عبر بناياته تاريخ العرب المسلمين، كلما زرت إشبيلية وملقا وغرناطة وقرطبة ومدن أندلسية أخرى، بيت كان عاش فيه العشاق والقتلة، الملائكة والشياطين، النبلاء والسفلة، الشهداء والخونة، حتى قررت السلطات بعد ردح من الزمن طمس هويته ومحو تاريخه، حتى لا يتحول لأيقونة ورمزية ذات بعد تاريخي بحمولات معينة.
لقد قررت السلطات تهديمه لاستغلال مساحته الأرضية لبناء برج عظيم يخفي الهوية السابقة ويحلل محلها بناية جديدة تدعى برج الأندلس، بالرغم من أن البيت له تاريخ عريق ويسكنه صاحبه، وهو امتداد لأسرته وتاريخها، فساكن البيت (مراد باسطا) المتبقي من السلالة المنقرضة، يرفض فكرة التهديم لأنها في النهاية محو للذاكرة الجمعية، ويدافع بكل شراسة عن هويته وكينونته، لأن البيت يشكل جزءا لا يتجزأ من هويته وذاكرة أسرته الممتدة جذورها في تاريخ هذه الأرض، ولا يمكن طمسها بسهولة، وهذا الساكن الوحيد ما هو إلا ذات من ذوات عديدة ترفض طمس الهويات العربية الإسلامية التي عمرت لزمن طويل هناك في الأندلس، كرفض المسلمين لتحويل المساجد والمكتبات والقصور العربية الإسلامية، لحانات وكنائس، فالبرج في الرواية كالكنيسة والماخور في الواقع المعيش اليوم في كثير من مدن إسبانيا التي تطمس معالم المسلمين يوما بعد يوم.
فالبيت الأندلسي في الرواية تم تشييده وبناءه في أواخر سقوط الأندلس ليظل شاهدا حيا هناك على ما تعرض له المسلمون من ويلات التعذيب، فيما سمي تاريخيا بمحاكم التفتيش التي طمس الكيان الإسلامي العربي بكل معانيه، فلم يسلم منها الحجر والشجر والبشر وكل معالم الحضارة، وقد تم بناء هذا الصرح التاريخي من قبل أحد الموريسكيين، ويطلق عليه (غاليلو ألروخو) أحد الفارّين من ويلات هذه المحاكم بالأندلس، خلال القرن السادس عشر، وفاء لحبيبته (حنا سلطانة) التي تركها تستوطنه، كالشجرة لتحافظ على الكينونة والتواجد الهوياتي هناك، فتستمر جذور العائلة ويستمر معها التاريخ، والتمسك بالأرض، لأن المرأة قادرة على الإنجاب وتوريث التاريخ لأبنائها عكس الرجل المعرض دوما للقتل أول الخدمة العسكرية الإجبارية.
ويحدث أن يستولي على البيت الأندلسي قراصنة من الأتراك بعد عملية اغتصاب قاسية ضد صاحبته، وهم من المفترض أن يحافظوا عليه وعليها لما هم عليه من قيم الدين الإسلامي، ووشائج الأخوة التي تجمع المسلمين بعضهم ببعض مهما اختلفت مشاربهم وتوجهاتهم، فلم يكن من هذا إلا احتلال الأرض والاغتصاب ثم توسيع المساحة العثمانية، لتموت سيدة البيت ويتحول بدوره خلال فترة الاحتلال الفرنسي إلى أول دار بلدية في الجزائر من قبل الاستعمار وتوضع عليه الراية الفرنسية بدل العثمانية و الجزائرية، وتستباح جدرانه و أرضه ويفقد هويته وكينونته حتى بعد الاستقلال، بعدما تكالبت عليه ما تسمّيهم الرواية ورثاء الدم الجدد، فيُحوَّل إلى ماخور للرقص والخمر وكل أنواع الفسق والفجور، ومركزا لعقد صفقات تهريب المخدرات والأسلحة وغيرها، وقد فقد بذلك مكانته التاريخية و رمزيته التي شيد من أجلها، فالبيت لم يعد بيتا كما لم تعد رموز الأندلس العربية الإسلامية رموزا وتحولت بدورها إلى مواخير وكباريهات وكنائس.
الرواية استعارة مرّة لما يحدث في كل الوطن العربي من معضلات كبرى تتعلق بصعوبة استيعاب الحداثة في ظل أفق مفتوح على المزيد من الخراب والانكسارات، وبذلك فإن العرب المسلمين في كل بقاع هذه الأرض يحدث لبلدانهم وتاريخهم ما حدث للبيت الأندلسي، بما صنع الغرب وما صنعت أيديهم كذلك، نفس الأحداث التاريخية تعيد نفسها على رقعة جديدة من بلاد العرب، بعدما كانت على بلاد القارة العجوز، لم يتغير اللاعبون ولم تتغير اللعبة، فقط تغير الملعب، إننا نعيش ما عاشه البيت الأندلسي اليوم.
عبد اللطيف ضمير_ الجديدة
اترك تعليقا