وجوه قلقة تَشي بغموض المستقبل، أيادٍ تتشابك تخفي ارتباكا كبيرا..ونظرات تتفحصني من قُلَّتي إلى أخمصِ قدماي.. موظفة الاستقبال هناك ترمقني بنظرةٍ تحمل ألف سؤال و سؤال..بينما أحاول أن أبدد توتري بتلاوة بعض الآيات من الذكر الحكيم.. يَتراءى لي بين الحشود الشابة وجه أمي الملائكي ..لسانها لا يَكف عن الدعاء لي.
تعانقت عقارب الساعة عند الثانية عشر ظهرا..فقدت الإحساس بالوقت منذ ساعتين كَروحٍ فارقتْ جسدها إذ طال الانتظار .. يَلُفني التوتر بدراعين من حديد. سئمتُ مقابلات العمل هاته التي حفظتُ سيناريوهاتها المتكررة كما أحفظ سورة البقرة .. بَعضُهم يرفضني بلباقة مُبْدِياً ابتسامة مُشفَّرة لكني أَعي مضمونها فتَراكم التجارب مدرسة..و بعضهم لا يَكترث إنْ أذاني فيوجِّه سهام كلامه مخلفاً في قلبي جرحا لا يَندمل … لكن ما علموا أنه لا أمر يؤذيني غير تَرقّب أمي للبشرى .. و أسفي لأنني أخيب ظنها كل مرة.. فتهمس بقلب راض: لا تقلق يا بني” المكتوب ما منو هروب” رزقك لم يكتب بعد.
حان أخيراً دوري..دفعت الكرسي المتحرك متجها نحو مكتب المدير، لتستوقفني موظفة الاستقبال: “نعتذر منك سيدي فمن شروط اجتياز المقابلة السلامة الصحية”.
شل عقلي كما شلت أطرافي قبل سنتين في ذلك الحادث الملعون..لم تسعفني الكلمات لأرد على هذا الظلم فكان الصمت سلاحي..ستكون المرة الأخيرة التي أبحث فيها عن العمل ..تركت البناية و مسلسل سنوات حياتي يمر أمام ناظري بكل حلقاته ..دراستي الجامعية و تفوقي بين دفعتي..أحلاما رسمتها بريشة الأمل لتنقلب جاثوما تلك الليلة الأليمة حينما فقدت أبي و قدرتي على المشي في آن واحد..فأصبحت عالة على نفسي، عالة على المجتمع، وعالة على أمي.
أمي التي تحملت إعاقتي عندما نبذني الجميع.. وخطيبتي التي لم يعد يرقها مظهري بالكرسي المتحرك.. و أصدقائي الذين ملوا شكواي فانسحبوا واحدا تلو الآخر من حياتي كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف..و عائلتي التي تكتفي بكلمات الشفقة كلما التقت الأعين.
عدت الى المنزل و دموع الحسرة كبركان غاضب.. أغلقت باب غرفتي مودعا عالما لبس السواد في وجهي.. إذ يكفيني نور أمي.
استيقظت و أذان الفجر..أسمع همس أمي و تضرعها الى الله سبحانه و تعالى.. يا واهب الصحة لمن تشاء اشفِ ابني.. لا شفاء إلا شفاؤك ..اللهم ارحم زوجي و أسكنه فسيح جناتك…الإقامة، الركعة الأولى ثم الثانية..
يا أمي من أين لك هاته القوة و الرضا بقضاء الله وقدره..قمت أصلي و أحمد الله على ما ابتلاني به.
أخذت دفترا وقلما.. إنه الوقت المناسب لأعود للكتابة كما كنت أفعل قبل الحادث..إذ أوشكت أن أتم أول رواية من بنات أفكاري.
أمضيت ستة أشهر منعزلا كزاهد.. انصهرت الأحداث منذ الحادث لأعيد تشكيلها في رواية قد تكون فسحة أمل لشباب توغل فيه فيروس التشاؤم..وَثقتْ دار النشر في موهبتي.. فحققتْ روايتي نسب مبيعات ضخمة في وقت قياسي.
قررت أن أُُنَصب نفسي قدوة لأبناء جيلي..نعم إعاقتي جسدية لكنها لم تعق أهدافي و أحلامي، بل كانت الشعلة التي أوقدت نار الإبداع داخلي..الله سبحانه ابتلاني في جسدي فرضيت.. فما كان للحياة إلا أن تبسط لي دراعيها لتضمني بكل حب.
لا تتحاملْ و الحياة على نفسك..فقط تذكر دائما بعد الليل نهار..بعد المد جزر ..و إن مع العسر يسرا.
سمية حراز – مدينة بني ملال
اترك تعليقا