عند الرشفة الثانية من الكأس الأولى من شاي بارد، إمتزج علي الحلم باليقضة، فتذكرت _في ما يشبه الحلم _ أنني في الليلة الماضية كتبت نصا طويلا أسهبت فيه في حكيا عن غائبٍ ترك مكانه شاغرا منذ زمن. فملأت تجاوف مكانه في قلبي بكلمات رقيقة وغاضبة ورصينة رصانة شخصه الناذر في زمن الشخوص الكثيرة والمختلفة والتي لا تشبهه في شيء. لم أعد أتذكر إن كان ذلك حلما أو حقيقة. وما يقطع شكي باليقين بأن ذلك محض حلم، هو أنني لم أجد الورقة البالية التي كتبت فيها ما كتبت. رغم أنني بحتث عنها كثيرا في كل أرجاء البيت الطيني الشاسع الذي أقطنه.
صباح أخر من الصباحات الحالمة الضجة بالأماني، السماء ملبدة بسحوب سوداء كئيبة، والرياح الخفيفة تلعب بأوراق الخريف المتساقطة، وصبيان في طريقهم الى المدرسة، يرقصون مع نسيم بارد، متمايلين ينسجون فرحا لذيذا من أول خيوط شمس الصباح.
تختلف الصباحات لكن طائر الحسون الجميل لا يغير تغريده، وموقعه المعتاد فوق شجرة زيتون قريبة.
رغبة لا أعرف مصدرها تقودني لأطل على وجهي الكئيب المتجهم في المرآة، وجدت وجهي مكانه لم يتغير رغم أن شعري لزال مستمرا في هجرته الأبدية، مصمم على تركي لأصبح أقرع متجهم مخيف. لم أنصدم لأنني لم أجد وجها يوسفيا جميلا لأنني لم أسعى لذلك يوما.
في تجاعيد وجهي لمحت شيء منه، شيء من وقاره الجميل، ووجومه اللطيف، فأعجبت بوجهي رغم ما به من غضب دفين.
غاب كما غاب الكثيرون ودفنوا تحث التراب، ونسيناهم، فقط المحظوظون منهم نتذكرهم في مناسبات قليلة لنضحك أو لنقصَّ حكاياتهم ونأخذ منهم عبرة أو حكمة مفيدة رغم قِلّتها.
تحث هذه السماء الملبدة مرّ كثير من الناس وعاشوا حالمين بغد جميل فخطفهم الموت وغابوا، كانوا ذات زمن في نفس هذه اللحظة ينتظرون سقوط المطر، يصلون ويدعون تحث أقبية المنازل وتحث أشجار الحقول وفي الأزقة أن تمطر السماء غيثا نافعا ليزرعوا ما سيحصدون منه قوة يومهم، وحين تنفجر السماء مطرا، يرقصون في الأزقة وفي سطوح المنازل ويلعنون من سولت له نفسه أن يرفع المظلة في وجه السماء لأنه مصدر شؤم.
فتبتهج القرية وتعود الحياة للقلوب الكئيبة، فيحتفلون كأنه يوم عيد. عيد استثنائي يأتي بشكل مفاجئ بلا ترتيبات وبلا بروتوكولات متعبة للجسد والذاكرة فتجد الجَدٌّ يتذكر أيام المطر الناذرة أكثر من تذكره الأعياد المتعددة التي لم تعد تأتي إلا بالأحزان والموت المتجول في الطرقات بسبب حرب خفية يذهب ضحيتها شباب كثر.
وحين تُمطر تصبح أزقة القرية مستنقعات ضحلة تدوم أسابيع فتصبح ضجة بالضفادع الصغيرة التي تحدث ضجيجا يكسر هدوء القرية كل ليلة.
تذكرته وهو يحاول إن يجبر حماره الهرم على تخطي إحدى برك الماء فيمتنع، يحاول معه بلطف مررا وحين يأبى، ينزع غصنا من شجرة على حافة الطريق، يحدجه الحمار بنظرة متوجسة فيستجمع قواه ويقفز ليتخطى البركة ومع ذلك تلمس رجلاه الخلفيتين الماء، فيستمر في مساره المعتاد الرابط بين الحقل والبيت الذي لا يخطئه لطول ما سلكه. يذهب خفيفا ويعود مثقلا بالبرسيم أو العشب، وحين تتلقف أذان النعاج صوت إيقاع حوافره تشرع في الثغاء الحاد.
وقبل أن يصل الزريبة، صوت أنثوي نابع من البيت المجاور يصدح حادا أمرا الجدّ وهو الخابر بخبايا الحوش أن يترك للبقرة الوحيدة حقها من البرسيم.
رياح هذا الصباح الهادئ تحمل ذكريات قديمة، أنتشي بنسيمها المنعش للذاكرة. وفي ثناياها أقتفي أثر الغرباء المنسيين الذين لم يخلدهم التاريخ ولكنهم حجزوا أمكنة أبدية في ذاكرتنا الضعيفة.
صور قديمة تناثرت في دماغي كشظايا الزجاج المكسور، أرتبها بعناية وأنا أحتسي حساء الصباح، فنسجت منها زمنا أفلا كاملا بتفاصيله الدقيقة وشخوصه المختلفة.
زمن كانت فيه الحياة بسيطة بساطة الإنسان والمحيط. وكانت الحقيقة في حدود عيون الفرد، لا يفكر إلا في ما يراه ويصدقه. لا تعنيه السياسة في شيء وصراعات أحزاب الرباط المختلفة حول كيفية تقسيم الكعكة، ولا معارك الطوائف في الشرق، والحروب الباردة في الغرب…لا شيء من ذلك يهمه، كل شغله الشاغل هو بقرة ونعاج وإمرأة وأطفال ينتظرون رجوعه من الحقل كل مساء أمام بيته الطيني.
رشفة أخر رشفة من الحساء، لأعلن عن بداية يوم جديد، أخذت محفظتي السوداء البالية، وخرجت متجها إلى العمل، صفقت الباب ورائي وغادرت.
حسن بوازكارن – مدينة تارودانت
اترك تعليقا