كيف تدرك الكلمات مغزى المعنى أمام الذكريات التي تأتي وترحل. ما أسوأ لحظات الفراق، تلك التي تنهش داخلك كسم مؤقت. ذلك الفراق الذي يقولون أنه إمتد من السماء إلى بقاع الأرض.
لا ندرك دائما قيمة اللحظات الجميلة، إلا و آقتربت إلى النهاية .
كيف للبدايات ان تكون بهذا الجمال، وكيف للنهايات ان تظل محض الشك و فجأة تصبح يقينا. ولسيما ما يتعلق بالموت الأبدي..
تسربت هذه الوشوشات إلى ذاكرتي ذلك اليوم، حين كنا جالستين انا و صديقتي في مقهى يطل إلى الشارع.
كانت أقدام الناس تأتي وتذهب، وأصوات هنا وهناك. أخبرتني ذلك اليوم وليس ككل مرة ان فارسها آمتطى جواده، ولم يعد بعد ذلك إلى بلاد المهجر.
إستغربت من حديثها لهنيهة، أبهذا القدر ينشغل بال الناس، بشتى الطرق؟.
كيف لشخص ان يربط نفسه بشخص آخر إلى هذا الحد من الجنون؟.
لطالما أثارني الفضول في تلك الأهمية التي تربطها بذلك الشخص الذي هاجرها ولم يعد للحين.
كانت معظم أحاديثها عنه. وكأن ليس لها في الحياة سواه.
كيف للمرء ان يترك كل هذه الآثار وهذه الدهشة في شخص آخر. لطالما إنتابني الكثير من الفضول، حتى إنني كنت ألاحظ مدى حيرة أمي عند تأخري للرجوع إلى البيت.
يا لها من دهشة يلقيها الآخر على عاتقك وتبقى حائرا حيرة وجودية لا محالة. أهذا يدخل ضمن لعنة الوجود؟
غريب أمر هذا التعلق بشخص ما كان صديقا، أو زوجا، أو حبيبا، او كيفما يكون.
أكل هذا يحيل إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يتحمل هذه الحياة لوحده، لذلك يستحضر شخصا أو طيفا يحبه لكي يطمئن أنه ليس وحيدا ولم يكن وحيدا يوما ما. أم أن وحدته الفطرية هي التي تسبب له ذلك الرابط الوثيق بين شخص آخر؟
أدركت بعد هذه المدة من الوقت كم أن الفراق خمر مقدس.
في كل التجارب التي نصادفها من فراق الأحباب والأصدقاء.
يبدو أن للفراق فلسفة أخرى، كما قرأت في رواية بروست “ألبرتين مفقودة” هو الكتاب الذي أرى انه يعبر بشكل كبير عن معضلة الفراق بطريقة مبهرة ومثيرة للدهشة.
تذكرت هذا الكتاب وسط حديثنا انا وصديقتي, كم هو يعبر عن الموقف الذي كانت فيه. حينما كانت تتحدث، بدا لي وكأن سوان أمامي يتحدث عن ألبرتين. ولكنني لم أظهر لها ذلك ولم أحدثها عن القصة لأنها وببساطة لم تكن من محبي الروايات. سأقول أنه من الكتب التي ستقرأها وانت تسأل، كيف ذلك ولماذا. هو كتاب يسقطك في أفكار بعيدة عن الواقع، ليحملك إلى رحلة إلى ما وراء الكلمات.
لطالما كنت خائفة أن تأخذني تجربتي لنفس الموقف، وأتجرع ألم الفراق ، كما تجرعه سوان تلك الشخصية الناطقة بألبرتين. ولكن لا مفر من ألم الفراق وكأن هذه الحياة ليست إلا كتلة من هذه المعضلة.
لقد بحثت مرارا وتكرارا عن مستنقع تحافظ فيه على ذاكرتك لكي تحميها من النسيان. سلكت مسافات طويلة
سافرت عبر الكتب و المحطات، عبر القراءة والكتابة. وربما عبر مخيلتك أيضا.
ولا تزال حتى الآن لم تعثر على أي مستنقع يليق بها .لتكتشف في الأخير أن لا مجد كمجد الذاكرة، هي المستنقع الأخير حيث ينتهي كل شيء أو يبتدأ.
هي البداية والنهاية..
أجمل ما في الذاكرة أنها تحفظ الأماكن والأشخاص والروائح، ولسيما أبطال الروايات، وعناوين الكتب. أحاول أن أ هرب من نفسي إلى الكتابة، أن أتذكر أول مرة ذهبت فيها صوفي أمدسون إلى المدرسة. كيف صادفت تلك الرسالة الغريبة “من أين أتى العالم؟” وما هو العدم؟.
إن كان كل شيء قد تشكل من العدم فلماذا يعود بنا هذا العدم إلى نقطة البداية؟ كأنه شيء أشبه بعودة الأبدي.
الجميل في الكتابة أيضا ، أنها تحاكينا وتسردنا على شكل روايات وشعر.
تسافر بنا إلى عوالم أخرى، إلى مدن ومقاهي مجهولة وأشخاص ذو ديانات متعددة، نصادف فيها أفكارا ومعتقدات مختلفة. يحدث أن نصادف فيها أنفسنا، نسقط في ذواتنا عبر السطور، قد تبكينا وقد تسعدنا و قد تفقد أعصابنا.
للكتابة روح ينبض أملا وحلما يتلألأ في الأفق.
عائشة مرهوني – تنجداد-الراشيدية
—
اترك تعليقا