أنا لا أعرف أين أجد ذلك الملجأ الآمن الذي لطالما حلمت به، أي أرض ستقدر على احتوائي، أنا الضائع في أرض الله الواسعة على الدوام، لا أحتل أي قلب، ولا أملأ أية مخيلة، وأنا حتى لا أسعى إلى ذلك، لم أعد أتحمس لكسب أحد ولا لخسارة أحد، أنا أحس أني لا أحس، لعنة الوجود، بصقت السماء على وجهي، أحيانا، أو في عديد المرات، أنام فأستيقظ في لب الليل، أو بعده بكثير، فأسأل ذاتي لماذا أنا نائم، ولماذا بالضبط هنا، لماذا استيقظت، كلها أسئلة وأحداث لا أخفيك سرا عزيزي القارئ أن لا جدوى لها، كما هي أسئلتي الأخرى ومعظم أحاديثي، كي لا يخيب ظنك في الأخير إن كنت من هؤلاء الباحثين عن المعنى، أشفق على معظمهم، يموتون دون أي طائل، لم يجدوا معنى ولم يصنعوا منه شيئا، وان اعتبرت حروفي قد تكون مصدرا للمعنى فقد أخطأت الاختيار، هيا ارحل، أنا لست كاتبا، أنا فقط أنا، لست شيئا إلا أنا، وهذا سبب كاف ألا أنتج المعنى.
أستفيق في الفترة المذكورة آنفا، فأتذكر أنني نمت دون أن أتناول وجبة العشاء، ألجأ إلى المطبخ، أحيانا أجد شيئا، وأحيانا أضطر لطبخه بيداي، أحترم قدراتي في الطبخ، أحظى بمهارة في ذلك، لكن في معظم الأحيان حتى البيض لا أطبخه بالشكل اللازم، أضعه فوق النار فأسبح في خيالي، وأحيانا أعود إلى غرفتي خائبا دونما أن أجد شيئا، تبا للجوع جوعي، أشعل في الغرفة قنديلا كي أبصر الحركة من حولي فأحاول أن أتذكر شيئا، أحاول أن أعطي وجودي ولو سببا واحدا، من قال إن الذاكرة لا تصلح، لا بتاتا عزيزي القارئ، فهي موطن المرء، الذاكرة هي التي تحيي علاقتنا بالزمان وبالمكان وبالناس، في الذاكرة مساحة نحتفظ فيها بمن نحبهم، وبها أيضا مقبرة ندفن فيها من نود أن ننساهم، لذلك هي وطن، لأن الوطن أيضا هو المكان الذي يسعد الميت أن يحمل فيه اسما على حجرة وهو قيد الدفن، الذاكرة هي الحياة والموت معا.
أحيانا، أحدث الفراغ، هنا يبدوا أني بدأت أزيغ، أحدث مثلا الطاولة، لا ربما أنا أهدي ولكن تذكر دائما أني اعترفت لك من قبل أنك إن أردت المعنى فقد أزغت الاختيار، خذ نفسا وفكر مليا، هناك الكثير ممن يستحقون أن تقرأ لهم، غيري أنا. أسمع في الغرفة صوتا غريبا، يبدوا أنه لرجل دو صوت خشن، أو لفتاة في ريعان الشباب، المهم أني أسمعه، الصوت قريب جدا، إني أسمعه، أسمعه، كأنه بالقرب مني، على أي لم أعد أحتاج للتساؤل عن ماهية صاحب أو صاحبة الصوت، أريد أن أعرف فقط ماذا يقول، يا ليته يحدثني بما أفهم، ماذا يريد، ربما يود أن ننشأ حوارا، ننجب معا من خلاله صداقة، قد تعطي لحياتنا نحن الاثنان معنى، أقصد أنا وصاحب أو صاحبة الصوت، هو أو هي لا يتحدث بصوت مفهوم، فقط يشبه تأوهات، أنا أسمعه، أؤكد لك أني أسمعه، سمعته، عديد المرات، أصبح مألوفا. أريد أن يصمت الآن، أشعل الراديو، لأغير صوتا بصوت، صوت الراديو الآن مفهوم بعد أن عدلته، بعد مدة يتغير، يصبح صوتا غريبا، غير مفهوم، الآن أعي أن الصوت هو صوت الغريب أو الغريبة، الغير مفهوم، كيف انتقل إلى الراديو؟ بسرعة أطفئ الراديو، أحاول أن أعود إلى النوم، دون جدوى، الصوت لم يعد مسموعا بعد أن أطفأت القنديل، لكن النوم لا يعانقني، أرتدي ملابسي كأني سأذهب إلى محاضرة في الجامعة، لكني أخلعه بعد مدة، تبا الساعة تشير إلى الخامسة بعد الفجر، أستسلم للنوم، أؤكد أني سمعت الصوت.
في اليوم الموالي، لم ألج الغرفة إلا بعد منتصف الليل، استرخيت، ووقعت عيناي على احد كتبي، التقطته وقرأت قليلا، وجدت الكاتب رديئا، قذفت به، أقصد بالكتاب وليس بالكاتب، لكن لو كان بإمكاني أن أقذف حتى بالكاتب لفعلت ذلك دون تردد، فكما تحس أنت الآن برداءتي أحس أنا أيضا برداءته، إنها الديمقراطية، أو شيئا آخر مشابه لذلك، فأنا لا أريد أن أتحدث في السياسة، لا أريد أصلا أن أتحدث. فكرت مليا كيف أمضي هذه الليلة بدون أصوات، لم أجد لدي أية إجابة، قررت في لحظة من الزمن أن أتيه في الخارج، خرجت كي أبحث عن السراب في الخلاء، عانقت الخلاء، حدثت فيه الفضاء الفسيح الممتلئ باللاشيء، الهدوء نعيم، لكنه لم ينبع من دواخلي، رفعت رأسي متأملا النجوم، كم هي رائعة سماء الله الواسعة، تمنح الضوء من بعيد، دون أن تقول شيئا لأحد، كل نجومها لا تعرف شيئا عن الضوء، تكتفي بنشره في الكون، أما القمر فشئ أخر، هو بقدر ما هو جميل، فهو أناني ومترفع عن النجوم، انه يسحب منها الاهتمام الذي تستحقه، هي دائمة الحضور أما هو فلا يحضر إلا لماما، أو ربما أنا الذي لا أنتبه لحضوره، على أي حضوره يزعجني، وحينما ننزعج من شيء فإننا نتوقف عن الانتباه إلى حضوره من عدمه. وسط هذا الخواء الذي امتلأت به وامتلأ بي، ظهر الصوت من جديد، سمعته دويه من الجبال التي تحد نظري، فركزت انتباهي عساني أرى شيئا، عساه يقترب مني، أين أنت؟ أأنت مني خائف؟ لماذا تزعجني هكذا؟ إن أبشع الأشرار هم أولئك الذين يسيئون بدون أن يكشفوا هويتهم، هم وقحون لأنهم اختاروا لأنفسهم طريق الشر، وهم جبناء لأنهم أشرار بدون هوية ولا اعتراف، وهم كذلك لا يعلنون عن شجاعة قد تبرر شرهم. هيا أنا أنتظر ظهورك، هل تريد أن تؤذيني، تجرأ.
محمد هروان – تنجداد، الرشيدية
الاستاذ محمد هروان كل التقدير والاحترام لك