يمشي في أزقة المدينة، تقوده قدماه نحو المجهول، لا يعلم ما يخلصه من متاهات حياته ومنزعات نفسه وقلقها الذي يثور ويهدأ، حياة كرسها اللامعنى، تنقل بين عدة وظائف لكن لا شيئ يريح باله، لاشيئ يملك تلك الهوة الفارغة، هوة جدرانها طوب من العواطف، يبحث بين البكر والعشي عن معناها، لكن يفشل في كل محاولة، فلم يستسلم لفشله بل يسعى جاهدا لتفسير عواطفه.
عواطفه مصدر عذابه الكوني، عواطف تعيش في الماضي والمستقبل متجاوزة الحاضر “الآن” ، تعيش على آلام الماضي وهواجس المستقبل الذي لم يحن بعد دوره.
عذابه يشتد مع تذكره للفرص المفوتة، والتي سيطرت على فكره في الآونة الاخيرة عجلت بمغادرة قريته، قرية تتسم بالبساطة والهدوء، اناسها ساذجون يؤمنون بالخرافة، بعيدون كل البعد عن المنطق.
فوجهه رغم تشرده لمدة قصيرة لازالت تكسوه آثار النعمة الدنيوية الزائلة، وملابسه اعتلتها الرثة وسط مدينة متأنقة.
فلم يكن له مكانا معينا ليذهب إليه، فوقف في قلب ساحة تكسوها الخضرة وظلال وفيرة واشجار مسرحا لمختلف انغام الطيور، فاختلطت في قلبه اشياء بأشياء.
انها رحلة الصراع مع اليأس، فصار فريسة تمزقها مخالب القلق وأنياب الافكار.
استقر به الحال في غرفة استأجرها باحدى اسطح العمارات الشاهقة بالمدينة، معروفة لدى اهل المدينة بعمارة العصافير درب مولاي الشعبي، فحالة الغرفة التي كانت من نصيبه بالغة القدارة، نتبعث منها روائح كريهة يصعب تمييزها لكنها قريبة من رائحة مجاري المياه العدمة، جدرانها تحمل بقع وآثار خراب ناتج عن انتزاع مسامير من عليها، شقوق عريضة بداخلها جيش من الحشرات كالبق والنموس والصراصير، تخرج جماعات ومتراصة كفرق المشاة في الجيش. في الليل تعيش معركة حقيقية (كمعركة ترموبيل) مع اسراب البعوض التي تتضور جوعا وترى في دمك وجبة غنية لملء بطونها، يغدو الأمر لا يطاق مما يفرض خوض معركة حامية الوطيس لطرد السرب البعوضي خارج الغرفة لتنعم بغمضة عين.
عاش في حي مولاي الشعبي ما يقارب ثلاثة أشهر كاملة، ومعها بدأت نقوده في النفاد مما يحتم عليه رفع وتيرة بحثه عن عمل، فتوالت الأيام بدون تقدم يذكر، يجرجر قدميه، منهكا، متعبا، عائدا الى غرفته.
في بحثه المظني عن عمل، صادفته أيام عجاف، وسيلته المشي على قدميه حتى أدمت احدهما، أيام كئيبة حزينة تسلل الى قلبه الكرى والكدر، لم تنفع معه علب السجائر الرخيصة، التي غابت عن جيبه ليومين متتاليين بسبب تناقص دريهماته.
في مدخل العمارة صادف وجود صاحبة السكن، تنزل عبر سلم الذي تغير لونه، فسأته:
– أحمد هل وجدت عملا؟
– لا سيدتي، لقد ظننت في بادئ الأمر أن ظفر بعمل بالأمر اليسير
– لا فالعمل بمدينتنا أصبح كإبرة في كومة قش.
– في قريتي يتدولون في احاديثهم عن فرص عمل وفيرة بالمدينة
– لقد تغير حالها يا بني
فودعته لالة فاطمة بابتسامة تحمل في طياتها حنان الأم، متجهة نحو حي آخر لجمع الايجار الشهري من عمارة أخرى في حوزتها.
وبعد مضي خمس أيام من لقاءه مع لالة فاطمة، عثر على عمل محترم داخل معمل (محطة) لتلفيف البرتقال الموجه لدول الاوربية، المحطة تبتعد عن محل سكناه ب عشرين كلمترا، لكن المعمل يفر نقلا مجانيا لمستخدميه، هذا العمل أنقده من براثين البؤس والجوع والسؤال ولو أجلا.
كمال العود – مدينة تارودانت
اترك تعليقا