لم تكن لي تجربة مع الأدب الخليجي من قبل، ولم أقرأ أي عمل أدبي على الإطلاق، ليس تنقيصا من قيمة الإبداع الخليجي، ولكن لشغفي الكبير بقراءة الأدب المغربي والبحث فيه، ولا أخفي أني رفضت قراءة العديد من الأعمال الخليجية، لما لامست فيها من ضعف في التعاطي مع مواضيع الزمن، وأعني هنا تحديد المواضيع التي تهتم بالسياسة، فأغلب ما كتب في نهاية المطاف لا يعدوا أن يخرج عن سياق الحب والرغبة في التحرر من القيود السلطانية التي تفرض على المرأة، ولربما كان هذا دافعا لي لكي أبتعد عن هذا النوع من الأدب، و أجد ضالتي في قراءة الأدب العربي، من الكتب الشامية والمصرية، فالمغربية والشمال أفريقية، ثم نتفات من أعمال سودانية وغيرها من الدول العربية المنتشرة في القارة الأفريقية.
إن الأدب الخليجي عموما، أدب حديث الولادة ما يزال يترنح في مهده منذ سنوات ولم يستطع الخروج إلى الواقع، ويفرض نفسه، رغم كل الصراخ القادم من العربية السعودية والكويت، ويظهر ذلك من خلال كتابات روائيين من السعودية، ممن شمروا على سواعد أقلامهم لضخ نفس آخر يبعث القوة في هذا المولود ليكبر كباقي الأدب من العرب ومن مختلف الجنسيات، وحتى يتحقق ذلك على السلطة هناك إعطاء الحرية للكتابة والخروج من التقوقع الذي تفرضه على الشعوب هناك، وما قرأته في رواية “الأحلام تنتهي في ديسمبر” وغيرها من الأعمال الخليجية يؤكد هذا الطرح، فكاتبة الرواية أثير عبد الله، ورغم السرد الفني الرائع، المثخن بحالة شعورية ونفسية عميقة، والكثير من الحوارات الداخلية أكثر مما هي سرد للأحداث، إلا أنها ضلت تمارس الحذر في التعاطي مع بعض الخطوط الحمراء التي تتعلق بالمرأة، ولم تكن تمتلك جرأة أكبر في الكتابة.
في رواية “الأحلام تنتهي في ديسمبر”، تصور لنا الكاتبة المجتمع السعودي المحافظ، وكـأنه خارج التاريخ والحضارة الإنسانية، وخاصة في تعامله مع المرأة وخروجها لمنافسة الرجل في العمل، وهذا دافع من دوافع شتى جعلت الكاتبة تعلن ثورة عن التقاليد والأعراف في زمن العولمة والتطور والتكنولوجيا، العمل فيه بالنسبة للجنسين ضرورة لا غنى عنها ،ويتبين من خلال أحداث الرواية التي حققت شهرة لا بأس بها في العالم العربي، ولقيت رواجا بين الشباب الخليجي، توظف فيها الكاتبة شخصية محورية لسيدة تمكنت بعد صمود طويل وكفاح شاق، اقتحام ميدان الصحافة الذي كان إلى وقت قريب حكرا على الرجال في دول خليجية كثيرة، ولم يكن بالسهولة التي نتصور فالمجتمع الخليجي الذكوري يبخس من قيمة المرأة فلا تعطى لها المكانة الكبيرة خارج بيتها.
وتحاول الكاتبة من خلال روايتها هاته تسليط الضوء على قضية خروج المرأة إلى العمل، وكذلك ما تتعرض له في العمل من مضايقات وتحرش من قبل الرجال، حيث أنها تصور ذلك الاستغراب الكبير والدهشة التي أصابت معظم العاملين في المؤسسة التي باشرت العمل فيها، فالبطل ذلك الصحافي السعودي المرموق الذي يعمل في مؤسسة مرموقة في بلده تفاجأ بدوره رغم انفتاحه عن العالم من خلال ممارسته لهذه المهنة، ولربما سفره لدول كثيرة حول العالم، ما يكشف بجلاء أن دخول المرأة إلى ميدان العمل لم يكن سهلا في تلك الفترة -كما تفاجأ غيره- بوجود فتاة تعمل بينهم.
لقد تعرضت بطلة الرواية ليلى، أثناء عملها للعديد من المضايقات من الهمز واللمز، والتغزل واللمس، من قبل العاملين هناك الذي يجدون عمل المرأة الى جانب الرجل شيئا مخالفا لأعراف المجتمع، فكتبت هذه الرواية وكأنها محاولة لبعث رسالة إلى المجتمع السعودي لتغيير بعض الأفكار الهدامة عن المرأة وخروجها إلى العمل، بحيث ضلت صامدة صمود الرجال ولم تنزو ناحية رغباتهم وميولاتهم، الأمر الذي جعلها تكسب مكانة في المؤسسة التي تعمل بها، ويسقط البطل هذام في حبها، ويبدأ موضوع آخر أكثر تعقيدا من الذي سبقه، الحب بين شخصين خارج نطاق الزواج.
لقد عملت الكاتبة السعودية أن تجعل من البطلة ليلى، أنموذجا للمرأة السعودية من خلال الصفات التي البستها والجرأة التي منحتها في صناعة الأحداث والسيطرة على الأدوار، لقد أظهرتها بمظهر المرأة الجريئة، المتمردة على التقاليد والأعراف السعودية التقليدية، وتظهر هذه الصفات من خلال توليها للقيادة والعمل على أن تكون موضوعا من مواضيع الرواية، حينما تجردت من ترسبات الماضي بكل ما يحمله من ظلام التقاليد، إلى عوالم العصرنة الحالية، حيث أوكلت لعشيقها هذام تسجيل مظاهرة ستقودها لمنح حق النساء في قيادة السيارات، وكذا الحق في اختيار الحياة التي ينبغي أن تكون عليها المرأة.
لقد كانت هذه الثورة في رواية الكاتبة مجازفة كبرى ومرت على كل خير، في مجتمع يقدس روح التقاليد، لكنها كانت كثور الوحل، كلما حاولت الخروج من طين الأعراف وجدت نفسها تغرق في وحل آخر، فهي لم تمارس عطافتها وحبها كما ينبغي، وتحولت الأحلام إلى كوابيس لنفس الأسباب التي عادة ما نحاول أن نعود لها في كل فقرة، أحلام هذام وليلى كانت تصطدم برغبات أقاربهما فقد حرما من تحويل تلك العاطفة المجنونة الى مشروع زواج، لقد وجد هذام نفسه محكوم في بلد يتحكم حتى في رغباته التي حولت الحب الممكن إلى مستحيل، ليقرر في نهاية المطاف البحث عن الحرية في بلاد خارج العربية السعودية، في ديسمبر، انتهى حلمه بالزواج من ليلى لأسباب متجاوزة، وانتهت صلته ببلده وهاجر إلى الغربة، حيث سيشق مشواره ليصبح كاتبا مغمورا.
وتحاول الكاتبة في نهاية روايتها العادية، الترويج لفكرة الخروج من المقدس في المجتمع السعودي، نحو عالم يمتزج فيه ما هو عربي بما هو غربي، مجتمع لا تحكمه التقاليد والأعراف بقدر ما تسيطر عليه الديمقراطية وتحكمه الحريات الفردية، وقد ظهر ذلك من خلال الحالة الجديدة التي أصبح عليها هذام في بلاد المهجر، عندما هناك قادته الصدفة إلى الافتتان بفتاة لا يعرفها ولم يعرفها إلا بعد ان أوشكت الاحلام على التبخر مرة أخرى، حيث سيخرج إلى العالم الذي تحلم به الكاتبة وينادي به المجتمع السعودي، المنهك من التقاليد والأعراف، فكانا يلتقيان ويمارسان القبلات والحب، كانا يتناقشان ويأكلان لكن لا يعرف احدهما الاخر، يختلفان عن بعضهما البعض ويوحدهما الحب، هذا هو المجتمع الذي تحاول الكاتبة الترويج له، عالم من التحرر بعيدا عن تقديس ما توارثت عليه الأجيال.
هذه الأعراف التي لم تسلم منها دول الجوار، كالعراق مثلا التي تدخل في الرواية من خلال المحبوبة الجديدة التي يربط بها البطلة علاقة، الذي يحاول التخلص من شخصيته القديمة ونزع كل ما يرتديه من أفكار وأعراف، منتظرا اللحظة التي ستجعله يلتقيها صدفة مرة أخرى ليجرها إلى أحضانه، في لحظة حميمية مليئة بالإصرار على التغيير، ومعرفة الطرف الآخر المتلهف لما يتلهف له هو، ليكتشف هوية العاشقة الجديدة “صابئية” فتاة من العراق وقد جاءت إلى المهجر بحثا عن التحرر، وهروبا من جحيم المقدس في البلاد العربية، وكأن الكاتبة تحاول التغطية عن مجتمعها السعودي بتعميم الظاهرة على مجتمعات عربية مجاورة، لديهما تاريخ مشترك من الانغلاق الاجتماعي والثقافي والسياسي والحرياتي الشخصي، ما يجعل الفرد العربي يفكر في الهروب من هذا الجحيم إلى نعيم الحريات ببلاد المهجر.
ضمير عبد اللطيف – مدينة الجديدة
اترك تعليقا