لم أنتبه إلى دقات عقارب الساعة-من ذي قبل-حتى ذلك المساء… دقاتٌ على نَغمَاتها قدتُ تلك الزَّوبعة المثارة في ذهني بيقينِ السَّكران… بقيتُ الليلَ بطولهِ أتنفس السَّأم والأَرق، أرقٌ جعلني أتلظَّى، أتقلب، أتأفف… تحمستُ لأعوي كذئبٍ جائعٍ يعتلِي قِمَمَ الأطلسِ لِيٌسمِعَ صَوتَهُ للسَّاحِلِ؛ رَغِبتُ في الهروبِ؛ أي هروب؟ وإلى أين؟ ومن أين؟ ومن ماذا؟ صِدقاً هكذا رغبتُ؛ لكن لم أعرف قطُّ كيفَ؛ ما دُمتُ بزوبعتي قد أخذتُ مكانَ نقطةِ الدَّائِرةِ المرتبِطَةِ بالدَّائِرَةِ… فكيفَ لِي أَن أَعرِفَ كَيفَ.
كانَ هَذَا مجمَلُ شُعورِي ذَلِكَ المسَاءٌ. مَسَاءٌ تَزاوجت فيه كُلّ الأَضدادِ وانصَهرتْ في حَمِيمِيَّةٍ إِباحيَّة مقيتَةٍ طارحةً إِيَّايَ في العدمِ مِنْ دُونِ دَلِيلٍ يٌعِيدُنِي إِلى ذَاتِي.
لم أنجح في التخلُّصِ من ذلك الشعور… أو لربما بمعنى أدق لم أنجح في التخلص مني… الأهم إني غذوت الموضوع الوحيد لاهتمامي. لقد فٌرضت على نفسي. لقد سٌمِّرت في شخصي. صِرت كشخصية مُسْتلة من شخصيات الإلياذة والأوديسة الغير قابلة للانفصال عن أجسادها. وأنا عن الخطوب التي حاقت بي.
حاولت الاسترخاء ذلك المساء، عملا بحكمة ثقفتها وأنا أتعلم السباحة في صباي… كان أحد أقربائي يوصني دوما بضرورة الاسترخاء متى أحسست بخطر الغرق؛ كانت نصيحة عابرة؛ لم أكن أعلم أن ثمنها حياتي… في البدء كنت أجيد السباحة في الأحواض الضحلة التي تخصص لري الأشجار خصوصا أشجار الزيتون… طبعا لأني لم أكن أعرف البحر مثلكم في الصبا كان البحر بالنسبة لي هو ذلك الحوض الكبير الذي يفوق حوضنا حجما، حتى الأمواج لم أكن أعرفها إلا من خلال تلك اللحظة الزاهية التي نقوم فيها بمحاكاة تموجات الماء عبر الاصطفاف في خط مستقيم ثم ندفع الماء بأيدينا بطريقة منتظمة مما يجعل الماء يرغو يعلوه زبد أبيض وتموجات متمايلة… كبرت وظل ولعي بالسباحة قائما… اكتشفت بعدها أنه لا مجال للمقارنة بين حوضنا وبحركم.
أحببته ولو أني قد أصبت بالهلع لما رأيته أول مرة…
يا لكبره
إنه غول
هكذا تلعثمت أشذب تلابيب الكلمات لوصفه.
سرعان ما استأنست بأجوائه فغذوت أتردد عليه في كل عطل الصيف حتى أصبحت زيارته بالنسبة لي عادة سنوية…
ذات صيف حار بعدما صرت أسبح في عمق كبير بثقة وبدون خوف؛ أحسست بالماء يسحبني للداخل خلتها النهاية وقتذاك عاندته ظللت أجدف بعناد؛ ورغم كل الجهد أجد نفسي في مكاني… زاد هلعي لما بدأت أحس بالرمل يتفتت تحت قدماي ذعرت… من هول الموقف الذي لم أتخيله أبدا… سأغرق كما يغرق الملايين سنويا… سأغرق كما الشباب الذي يقطع البحار بحثا عن حياة تليق بهم… سأغرق كما يغرق الشاب الفار من البطالة والمحسوبية والفقر والاستغلال… هبطت غشاوة على عيناي فلم أعد أستطيع تمييز من حولي، لم يعد بمقدوري حتى تبين طريق الخروج…
لاحت لي تلك الحكمة العظيمة.
منقذتي…
حكمة كان لها مفعول السحر؛ كانت هي خلاصي من الكابوس المرعب الذي جعلني أتأمل شريط حياتي على شكل صور ذهنية متقافزة… توقفت عن التجديف بعناد فانتبهت للرمل المتفتت تحت قدماي سرت عكس اتجاه الجزر…حينها هممت أجرب ألف حيلة وحيلة للخروج بعدما تأكدت أن كل محاولاتي حينها تسير اتجاه عمري الثاني؛ كافحت وأنا مسترخي بكل ثقة فنجحت. خرجت وقتذاك كقشة صغيرة من بحر كبير كنت أحسبه لطيفا باستمرار…
اليوم باسترخائي صرت أعرف البحر أفضل منكم…
قصة جعلتها سلاحي؛ أشحذها كلما اشتدت كحسام مصقول من جهتين أفتت بها كل النوائب والعاديات التي تقف في طريقي… تمددت مباشرة وأنا على يقين أن ثمة ضوء في آخر النفق الذي حسبته بعنادي مسدودا… تتساءلون عما حدث لي ذلك المساء؟ أليس كذلك؟ أيهمكم حقا أن تعرفوا؟ أم أنه مجرد فضول للتشفي؟ أو لتغرقوني في بحر نتف الشفقة؟
صدقوني أستطيع أن أبوح لكم بكل ما وقع لي ذلك المساء… أستطيع التغاضي عن أسفكم، شفقتكم، تعاطفكم… لكني أرهقت تمام الإرهاق… بالقدر الذي عاد فيه تأجيل الاستسلام لنوم عميق أمر مستحيل.
كلما سأخبركم به هو أن ما لحق بي ذلك المساء يحاصركم جميعا دون استثناء في فترات الخواء… فأحذروا…
اجعلوا كما أنا الاسترخاء دليلكم للنجاة.
الحسين الرحاوي – مدينة بني ملال
اترك تعليقا