ميلان كونديرا، الأديب والروائي دو الأصل التشيكي، الحاصل على عدة جوائز في مساره الأدبي. تعلم الموسيقى على يد والده، كما درس الأدب والسينما. من بين أعماله القيمة، التي عرفت شهرة كبيرة، نظرا لقيمة المواضيع المطروحة فيها، ولقوة مقاربتها بنفس روائي ضخم، راوية “الجهل”.
تتكون رواية الجهل لكونديرا من 158 صفحة، تناول فيها الكاتب مواضيع عديدة، ومن زاوية تحليل روائي خاصة. حملت مقاربة لمفهوم الوطن بكل متغيراته، كما الحال بالنسبة “لإيرينا” و”جوزيف”، بعدما أحسا بغربة لا متناهية، وقد حصل ذلك عندما ابتعدا عن تربتهما الأصل. لم يبقى لهما سوى نوستالجيا متفرقة هنا وهناك، فكانت محاولة لم شملهما تتسم بالصعوبة، لا من خلال عودتهما أثناء إجازتهما الصغيرة، ولا من حيث لغتهما التي انصهرت، فشوهت تلك العودة القابعة منذ زمن.
لقد شكلت الرأسمالية لجوزيف و إيرينا _أو للكاتب على لسانهما_ القالب الذي يغير ويعيد صياغة كل شيء. بتشاؤم غطى حيز الرواية، نجد نظرة غير راضية عن تغير اللغة والوطن، ثم الموسيقى والفن، ذلك الفن الذي فقد بريقه وكينونته الفلسفية في ظل الرأسمالية مرة أخرى. الذاكرة هي الأخرى لم تسلم من إعادة صياغتها، الخزان الوحيد والأوحد، القادر على تخزين المواضيع، وتوليدها، لمقاربتها وفق زمان ومكان مختلفين، ثم دراستها وإسقاطها على واقع آخر. يبقى خزان الذاكرة المعادلة التي لا يمكن فهمها دون مقاربة رياضية. والمعطى الأساسي كما تحدث عنه كونديرا في رواية “الجهل”، يكمن في “العلاقة الرقمية بين زمن الحياة المعاشة وزمن الحياة المخزنة في الذاكرة”. ففي نظر ميلان، الذاكرة غير وفية، ومادامت كذلك فهي غير موضوعية، لم تحتفظ إلا بجزء في غاية الضآلة من الحياة المعاشة. ورغم ذلك كله، فذاكرة الإنسان، هي ما تميزه على كونه بشر، وبدونها لما كان كذلك، “فلو كان بوسعه أن يتذكر في أية لحظة أي جزء من ماضيه، لما كان من البشر”. في كتابه “فن الرواية”، تناول كذلك ميلان الذاكرة، واعتبر أنه: “ثمة حدود أنتربولوجية لا يجب تجاوزها كحدود الذاكرة على سبيل المثال، إذ يتوجب أن تكون في نهاية قراءاتك قادرا على تذكر البداية”. وفي تتابع واضح يقترح كونديرا حلا لكي لا تغيب وظيفة هذا الخزان الحيوي، يتمثل في ضرورة إدراكنا جيدا، أنها (الذاكرة)، و لكي تشتغل بشكل جيد ، تحتاج إلى تمرين متواصل: “إذا لم تستحضر الذكريات، مرة تلو الأخرى، في الأحاديث مع الأصدقاء، فإنها تتبدد”. هكذا هي الذاكرة إذن، تمارين متواصلة، وعمل ميكانيكي على الدوام.
لننعطف نحو التاريخ، التاريخ الذي ينظر له بقداسة، ويمنحه الشرف، ويعرض المشككين فيه لمقصلة الحكم المعنوي، في الحاضر والمستقبل عند الأجيال. “فلن ننتهي من نقد أولئك الذين يشوهون الماضي، ويعيدون كتابته، ويحرفونه”، يقول كونديرا. فمن يضمن لنا صحة وأهمية تاريخ دون غيره؟ بعدما ضخموا حدثا لا قيمة له، وسكتوا عن أحداث تاريخية أخرى. لا شك أن القوة لعبت دورها كذلك، فتم تحريكها للتحكم في كتابة التاريخ، والتخلي عن “الأرشيفات الأكثر غنى”. كما أن التواريخ العظيمة للقرن العشرين كما سماها ميلان، تركت أخاديد عميقة، منها “الحرب العالمية الأولى 1914، والثانية، ثم الثالثة، والمسماة باردة”. ودور هذه الأحداث التاريخية، أنها تستحوذ على ذوات الأشخاص، ودونها لا يمكن أن نفهم وجود إرينا في فرنسا. لقد كانت السبب وراء هجرتها وجوزيف، وعموم المهاجرين. وكلهم حلموا، في الواقع ربما أو غيره، بحلم رؤية نور عودتهم لمنازلهم الأصلية. “في النشيد الخامس من الأوديسة، يقول لها عوليس: رغم كل حكمتها، أعرف أن بنلوب ستكون إزاءك بلا عظمة ولا جمال،… ومع ذلك ما أتمناه كل يوم هو أن أعود إلى هناك وأن أرى في منزلي نور العودة.”
القوة معادلة أخرى ضمن معادلات كونديرا في الجهل، وبدون قوة لا وجود للتاريخ. فكان تشخيصه للقوة، من خلال الجيوش والعتاد، والقتال في سبيل كل ما هو مقدس، – وقد يكون التاريخ أكثر قدسية، وذخيرة حية تزداد قيمتها مع تعاقب الأجيال-. إلا أن الانتصار لن يكون إلا من جانب واحد، كما الهزيمة، ليسجل التاريخ هاهنا، أبطال الحقبة آنذاك. لكن كيف يمكن القضاء على الجيشان المتصارعان؟. في نظر ميلان، فلا قوة يمكن أن تقضي عليهما معا، غير “بكتيريا الطاعون الصغيرة جدا”.
لقد شكل كل من إيرينا و جوزيف، رمزا للمنفى والعودة، رمزا لتمرد اللغة والوطن عليهما. من خلالهما عبر ميلان عن الجهل بكل حمولاته، عن الأحاسيس والعلاقات الغرامية. عن العائد الغريب الغامض، والمجهول أحيانا. عن الجهل باللغة، عندما تتمرد على لسانها الأم، ثم عن الجهل بالوطن، ذلك الوطن القابع في الذاكرة بكل تفاصيله السوداوية، تفاصيل ترتبط بالمنفى، والسجن والغربة.
لم تتوقف مواضيع كونديرا عند هذا الحد، فوجه الجهل مستمر وجوده في الموسيقى كذلك، إنها “الصراخ الذي يملأ العالم”، فيعبر عنها ب”العواء الموجود في كل مكان”، دون أخد إذن السماع إليها، “دون أن نتساءل ما إذا كنا نرغب بالإصغاء إليها أم لا”، “فهي تعوي في مكبرات الصوت، في السيارات في المطاعم والمصاعد، في الشوارع في صالات الجمباز، في الآذان المسدودة بالسماعات”. الموسيقى إذن حسب ميلان – ويمكن أن نسقط تعريفه على موسيقانا اليوم- هي موجة يختلط فيها كل شيء، دون أن نعرف من المؤلف، ودون تمييز بين البداية والنهاية.
هذا الخلط وعدم التمييز في الموسيقى عامة، ولَد نظرة مغايرة للفن كذلك عند ميلان، خاصة في زمن العقيدة الاشتراكية. يقول كونديرا: أن اللوحة كانت “تعود إلى العام 1955، إلى المرحلة التي كانت فيها العقيدة الاشتراكية في الفن تتطلب الواقعية بصرامة، كان المبدع يفضل أن يرسم كما يرسم الفنانون آنذاك في كل مكان من العالم، أي بأسلوب تجريدي، لكنه كان يرغب في الوقت ذاته أن يعرض لوحاته، لذلك اضطر لإيجاد النقطة العجيبة التي تتوافق فيها متطلبات الإيديولوجيين مع رغباته كفنان، كانت الأكواخ التي تصور حياة العمال هي ضريبة للإيديولوجيين، والألوان غير الواقعية بشكل صارخ هي الهدية التي صنعها لنفسه”. إلا أن جوزيف، وعندما استعاد الرسام حريته، فضل اللوحة القديمة عن اللوحات الجديدة، لوحات العهد الجديد الذي “أصبح فيه الرسام حرا تقريبا أن يفعل ما يشاء”.
في النهاية، تبقى رواية “الجهل” لصاحبها ميلان كونديرا، انعكاسا للغربة والوطن، والمنفى القريب- البعيد. في الجهل أيضا؛ جهل بأبسط تفاصيل الحياة، تلك التفاصيل التي تدفع للهجرة، وتحرك التاريخ، وتقلب موازين القوى. “الجهل” رواية بحجم صغير، لكنها حملت مواضيع ضخمة وبتفاصيل دقيقة.
محمـد الهشـامي – مدينة المحمدية
باحث جامعي
مقال متميز وفي المستوى لا من حيث اللغة ولا من حيث المضمون، أماني التوفيق انشاء الله