بنعاشر الركيك  يكتب: نحو فهم سوسيولوجي للمدرسة    

16 سبتمبر 2020

 

                                                         

مقدمة:

    تعد المدرسة مؤسسة اجتماعية توكل لها مهمة الضبط الاجتماعي من خلال تلقين الناشئ مجموعة من القيم والمبادئ المؤطرة للمجتمع، فالمدرسة تلعب دورا كبيرا في عملية تلقين وتشريب الأجيال الصاعدة قيم ومبادئ المجتمع.

     ويبدو واضحا أن دراسة المدرسة ولو في جانب معين تكمن في فهم وظيفتها والمهام المنوطة بها باعتبارها مؤسسة اجتماعية، لاسيما إذا تعلق الأمر بالمدرسة كبنية اجتماعية، وعلاقتها بقضية التربية على اعتبار أن المدرسة تتفاعل، بشكل من الأشكال، مع مختلف مؤسسات التربية بناءا على وعي ثقافي معين وأيضا على ضوء إمكانات الوضع الراهن.

         وإيمانا منا بأن تحليل الواقع الاجتماعي ونقده يسمح بالإسهام في تغييره، سنسعى في هذا المقال إلى تناول المدرسة في النظريات السوسيولوجية وأهمية المدرسة في تنشئة الطفل، وكذا الطابع الاجتماعي-المؤسسي للمدرسة، ويأتي هذا كله في سياق تساؤلات سوسيولوجية تروم معرفة نوعية الرؤية الاجتماعية لهذه المؤسسة ومما تتشكل؟ وإبراز الطابع المؤسسي-التنظيمي لها.

المحور الأول: سوسيولوجية المدرسة: المفهوم، النشأة والتطور

1-مفهوم المدرسة:

   يرجع أصل المدرسة إلى أصله اليوناني schole ويقصد به وقت الفراغ الذي  يشغله الناس مع زملائهم للترويح على النفس أو الاستزادة من المعرفة، ثم تطور اللفظ ليشير إلى التكوين الذي يعطي في شكل جماعي مؤسساتي، وإلى المكان الذي يتم فيه التعليم، ويفيد اللفظ حاليا المؤسسة الاجتماعية التي توكل إليها مهمة التربية النفسية والفكرية والأخلاقية للأطفال المراهقين  في شكل يطابق متطلبات المكان والزمان، فهي إذا المؤسسة العمومية التي يعهد إليها المجتمع بدور التنشئة الاجتماعية لتنشئته وفق مناهج برامج يحددها حسب غايات، ويمكن تصنيف المدرسة حسب نوعها حجمها، طبيعتها التربوية، نظام الدراسة فيها وجودة أدائها.[1]

   وأما اصطلاحا: فالمدرسة من الناحية السوسيولوجية هي مؤسسة شكلية رمزية معقدة تشتمل على سلوك مجموعة كبيرة من الفاعلين وتنطوي على منظومة من العلاقات بين مجموعات تترابط فيما بينها بواسطة شبكة من العلاقات التي تؤدي فعلا تربويا عبر التواصل بين مجموعات المعلمين والمتعلمين، فالمدرسة كمكان أو مؤسسة حيث تتحقق سيرورة اجتماعية معقدة تجمع في علاقات معقدة عددا من الفاعلين الاجتماعيين: أساتذة، تلاميذ، مراقبين، وموجهين…هذه السيرورة هي التمدرس وهي مرتبطة بأخريات: تعليم، إدماج اجتماعي، مهني… [2]

      وهناك من الباحثين يرى بأن المدرسة كمفهوم مرادف للنظام التربوي بالنسبة لوحدة سياسية معينة، وهناك من يعتبر أن المدرسة هي مؤسسة institution كالجامعة أو الثانوية أو المدرسة الابتدائية أو مؤسسة الروض[3]

      ويعرف فردناند بويسون ferdinand buisson المدرسة بأنها “مؤسسة اجتماعية ضرورية تهدف إلى ضمان التواصل بين العائلة والدولة من أجل إعداد الأجيال الجديدة، ودمجها في إطار الحياة الاجتماعية”

    ويرى فريديريك هاستن: “بأن نظام معقد من السلوك المنظم والذي يهدف إلى تحقيق جملة من الوظائف في إطار النظام الاجتماعي القائم”[4]

     أما شيمان يعرف المدرسة قائلا “إن المدرسة شبكة من المراكز والأدوار، التي تقوم بين المعلمين والتلاميذ، حيث يتم اكتساب المعايير التي تحددها لهم أدوارهم في الحياة الاجتماعية وتنبع هذه الأدوار من البنية الشكلية للمدرسة ومن ثقافتها الفرعية المناسبة[5].

   وتنظر سوسيولوجيا المدرسة إلى المدرسة كمدرسة اجتماعية تعمل على تكوين السلوك الاجتماعي للأفراد قصد تأهيلهم للقيام بالوظائف الاجتماعية الأساسية[6]

2-نشأة وتطور علم الاجتماع المدرسي:                                                    

          لقد ظهر علم الاجتماع المدرسي نتيجة  لعدد من التطورات الاجتماعية، والدور الذي يلعبه النظام التعليمي في ترسيخ أسس الديمقراطية الاجتماعية والحراك الاجتماعي عن طريق التحصيل الدراسي وكذلك دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية، وقد كان علم الاجتماع التربية (المدرسة) بعد ظهوره يتناول مسألة الأسس الاجتماعية بشكل واسع وعام وذلك في منتصف القرن التاسع عشر .إلا أن الاهتمام به كان أساسا بعد اتساع حركة الإصلاح التربوي ،وكذلك بعد انتشار الفلسفة البراغماتية وبشكل أقوى بعد نشر “جون دوي” (1952\1859) كتابه “المدرسة والمجتمع” سنة 1999 إلا أن ذلك كان مجمله يتناول الجوانب الاجتماعية للتربية بطريقة نظرية

          وفي سنة 1920 تأسست أول جمعية قومية في الولايات المتحدة الأمريكية، تحمل اسم علم الاجتماع التربوي وأصدرت أول دورية تحمل اسم the journal of educational sociology  وظلت هذه الجمعية تنظر إلى علم الاجتماع التربية على أنه فرع من فروع التربية وليس فرعا من فروع علم الاجتماع.إلا أن ظهور عدة عوامل جديدة في الخمسينات أدت إلى تغير تلك النظرة ؛أهم هذه العوامل، تقدم الصناعة وتنوع مؤسسات المجتمع ،وظهور البطالة والجريمة والصراعات العرقية ،وتقدم العوم الاجتماعية ،تم انتشار الاتجاه الوظيفي وبفضل تلك العوامل ،وكذلك تطبيق مبادئ ومفاهيم علم الاجتماع لدراسة المشكلات التربوية تم أخيرا اعتبار علم الاجتماع التربية ميدانا من ميادين علم الاجتماع.

     وقد شكلت أعمال دوركايم النواة الحقيقية لعلم اجتماع التربية والمدرسة على وجه الخصوص، باعتبار (دوركايم) مؤسس المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع ، والتي هيمنت على علم الاجتماع التربية منذ الخمسينات ومن أبرز كتبه “التربية والمجتمع” و”التصور التربوي في فرنسا” . كما ساهم أيضا ماكس فيبر بكتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”؛ شرح التطور الاجتماعي الرأسمالي في أوربا الغربية وعرض في نفس الوقت الفكر الاجتماعي التربوي بشرح تأثير أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج على البناء الثقافي والحقوقي للمجتمع والنظام التربوي والمدرسي.

    إجمالا ساهمت البحوث السوسيولوجيا في مجال المدرسة على امتداد القرن العشرين في بلورة علم الاجتماع المدرسة بوصفه نواة لعلم الاجتماع التربية، وقد ساهمت أعمال بيير بورديو في كتابه “إعادة الإنتاج” la reproduction، وفان إليتش في كتابه ” مجتمع بلا مدرسة”؛ في تطور علم الاجتماع المدرسي وفي إثراء وتعميق البحث في هذا المجال حيث تمكن هذا العلم الجديد –علم الاجتماع المدرسي-من تحقيق استقلال نسبي عن علم اجتماع التربية الأم، الذي يتناول مختلف الظواهر التربوية في علاقته بالمجتمع.

المحور الثاني: المدرسة في النظريات السوسيولوجية:

   لقد حظيت قضية التربية (المدرسة) بعناية كبيرة من طرف علماء الاجتماع والأنثروبولوجية وسارت بذلك مواضيع سوسيوجيا وأنثروبولوجيا بامتياز وفيما يلي سنقتصر على رصد نظريتين اثنين:

  • الإتجاه الدوركايمي:

       هو تيار اصلاحي ذو طابع أخلاقي وإنسانوي humaniste ويمثله دوركايم (1917-1858) أحد رواد علم الاجتماع. وشكلت أعمال دوركايم أول محاولة لتأسيس أول اتجاه نظري في سوسيولوجيا التربية محاولا تجاوز المفهوم الكلاسيكي لتربية لدى رواد الفكر الاجتماعي (سان سيمون، هربرت سبنسر، فرنسوا فوريين) والفلسفي (روسو، كانط، هيغل، ستيوارت ميل…) التربوي.

        وانطلاقا من المنظور الدوركايمي، يمكن القول بأن مسألة التربية والتعليم (المدرسة) كمفاهيم وقضايا اجتماعية تدخل في إطار التنشئة الاجتماعية أو التنشئة الثقافية بصفة عامة، لأن مفهوم التنشئة ومفهوم التربية والتعليم لهما نفس الدلالة في التأطير السوسيولوجي لإميل دوركايم، ويتضح ذلك في كتابه “التربية والسوسيولوجيا”l’education et sociologie” حيث يقول بأن. “التربية تتمثل في التنشئة الاجتماعية المنظمة لجيل الصغار”[7].

      ويعتبر دوركايم أن كل مجتمع يمتلك في فترة محددة من تطوره نظاما تعليميا “système  d’éducation يفرض نفسه على الأفراد بقوة، وهو غير قابل للمقاومة فمن العبث الاعتقاد بأننا نستطيع تربية أطفالنا كما نريد، هناك إذن في كل فترة من الزمن نمط يتحكم في التربية وأي محاولة للخروج عنه تواجه مقاومات حقيقية…

        فالتربية والتعليم من منطلق سوسيولوجيا اميل دوركايم عملية اجتماعية تاريخية تشارك فيها عدة مؤسسات اجتماعية أهمها المدرسة إلى الأسرة طبعا.

    ونجد في تصور دوركايم -الذي يتميز بنوع من العمومية- بأن موضوع التربية والتعليم لا يختلف عن تصوره لأي ظاهرة اجتماعية، حيث يقر باستقلالية التربية المدرسية عن الفرد وأسبقيتها عليه، فأفراد المجتمع حينما يزدادون يخضعون منذ البداية لعملية التنشئة السوسيوثقافية التي تستهدف بالدرجة الأولى تكوين شخصيتهم على المستويات السلوكية والأخلاقية والفكرية.

     وبالتالي إن دور التربية والتعليم(المدرسة) في المجتمع هو الذي يشكل موضوع سوسيولوجيا المدرسة عند دوركايم، وليس الاختلافات بين المتمدرسين حيث يتم الإعلاء من قيمة الدور الاجتماعي للتعليم، والبعد الأخلاقي والسياسي أكثر من إعادة إنتاج التفاوتات وبعدها الصراعي.

    وبناءا على ما سبق ذكره حول نظرية اميل دوركايم، وفيما يتعلق بمفهوم التربية والتعليم(المدرسة)، يتبين على أن النظام التعليمي في المجتمع وظيفته الطبيعية ترسيخ مبادئ التربية الثقافية، لاسيما الأخلاق والفكر والإبداع والابتكار، وبهذا المعنى يكون مفهوم التعليم بمثابة نظام اجتماعي هادف مرتبط بغايات ووسائل، فتنظيم العلاقة بين المعلم والمتعلم تعد من وسائل وغايات التعليم تبقى متعلقة دائما بتحرير المجتمع وتقدمه.

2-نظرية بيير بورديو وجون كلود باسرون:

    إن ما تتميز به نظرية بورديو وباسرون سواء في كتابهما “إعادة الإنتاج” la reproduction  أو السلطة الرمزية « le pouvoir symbolique » ،هو الطابع النقدي في القراءة السوسيولوجية للظواهر الاجتماعية ، وفيما يتعلق بقضايا التربية والتعليم (المدرسة) نجد بورديو يناقش من زوايا نظر تختلف نسبيا عن مناقشة اميل دوركايم لهذه القضايا.

      يتحدث بيير بورديو عن مفهوم التربية والتعليم، باعتبارها تلك الوظائف الثقافية التي تقوم بها بالدرجة الأولى مؤسسة المدرسة، إلا أن الإشكال الذي يطرحه بورديو في نظريته، هو أن الطبقة المهيمنة اقتصاديا هي وحدها القادرة على نشر صورتها وثقافتها وإيديولوجيتها داخل المجتمع، وذلك بفضل سيطرتها على ما يتوفر عليه المجتمع من مؤسسات ثقافية واجتماعية وتربوية (المدارس، الجامعات، وسائل وقنوات الاتصال…إلخ). وانطلاقا من هذا المنظور تصبح وظيفة المدرسة، بل والنظام التعليمي والثقافي عموما، مختصرا في إنتاج وإعادة إنتاج نفس العلاقات التراتبية للنظام القائم والمحافظة عليهما الأمر الذي يخدم في نهاية المطاف مصالح وتوجهات الطبقة المهيمنة.

     فما دامت هناك سيطرة اقتصادية لفئة معينة، وهيمنة ثقافية لطبقة محظوظة على طبقات أخرى، فبورديو يعتبر النظام التربوي والتعليمي السائد يكرس مشكلة اللاتوازنات والفوارق الطبقية داخل المجتمع.

    ويفيد تصور بورديو بأن التعليم هو اكتساب الرأسمال الثقافي من خبرات ومعارف وتعلم التجارب إلى غير ذلك. على أساس أن حق المعرفة يتساوى فيه الكل الاجتماعي، إلا ان هذا الاكتساب في الوضعية الراهنة يتم عبر توظيف الرأسمال الثقافي والموروث، وغالبا ما تعمل على تكريس الهيمنة الرمزية المنبثقة من سلطة المال والجاه أي السلطة الرمزية.[8]

      ويرى أن تأثير السلطة الرمزية يكون أعمق أخطر لسبب بسيط يتمثل في كونه يستهدف أساسا البنية النفسية والذهنية للمتلقين لها، وبالتالي فهي-السلطة الرمزية- تمارس فعلها العميق، وتخطط من أجل فرض وتحقيق الأهداف المرسومة والمتوخاة، وإنتاج الأدوات والآليات والمعايير المناسبة والناجعة، لتثبيت وخلق واقع ووضع إنساني مرغوب فيه ومخطط له، وتمارس سلطة الرمز كل هذه الأعمال والأدوار بطريقة منظمة وبنائية. وتحت غطاء الخفاء والإختفاء وراء حجاب أقنعة المألوف المادي، وأنظمة التقليد والقانون والخطاطات الشائعة بين عامة الناس، يقول بورديو في هذا الصدد”إن السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية، ولا يمكن أن تمارس إلا بالتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها بل ويمارسونها”[9].

    وفي أفق إنتاج وإعادة إنتاج علاقات القوة داخل المجتمع الواحد، يظهر جليا على أن عملية التنشئة المدرسية تتأثر بنوع من التعسف الثقافي بعبارة بورديو، وبالتالي تنتج لنا فئات تفتقر إلى الرأسمال المعرفي العادل على اعتبار أن مال الفئات المتمدرسة سيكون محدد سلفا من قبل الفئات المتحكمة في النظام التعليمي، وفي الأخير تكون بطبيعة الحال، حصيلة الممارسة التربوية التعليمية مسألة تخدم بالدرجة الأولى المصالح الرمزية والمادية للطبقات المهيمنة.

    وهناك فكرة في الحقل السوسيولوجي لبورديو وهي: نسق الاستعدادات المكتسبة أو ما يعرف بالهابتوس habitus [10] هذه الفكرة يقارب بها بورديو مختلف القضايا الاجتماعية بما في ذلك مفاهيم التربية والتعليم، فعن طريق الخطة البيداغوجية السائدة وما تكرسه من تطبع على الأفراد داخل المدرسة وخارجها في الحقل الثقافي الأسري يتشكل ما يسمى » بنسق الاستعدادات المكتسبةhabitus «  ، وهذا الأخير يحدد النظام التعليمي والتربوي السائد ويتغدى منه في نفس الوقت، وذلك عن طريق الأدوات الرمزية، كاللغة والثقافة والخطاب والسلوك”[11]

   وبناءا على هذا على هذا يرى بورديو بأن نجاح أي تربية مدرسية أو بصورة عامة نجاح كل عمل بيداغوجي، يتوقف أساسا على التربية التي سبقته “معنى أن التعليم ونجاح التمدرس في الواقع الاجتماعي هو نتاج مشترك لمجموعة من مؤسسات التنشئة والتربية.

المحور الثالث: المدرسة مؤسسة اجتماعية وقناة إيديولوجية رسمية:

1-أهمية المدرسة في تنشئة الطفل:

   يرى جويل روسني أن وظيفة المدرسة لا تقف عند حدود نقل المعارف الموجودة في بطون الكتب وحسب، وإنما في عملية دمج هذه المعارف في أوساط المعنيين بها[12]

    وينظر جون ديوي dewey إلى المدرسة بأنها مؤسسة اجتماعية تعمل على تبسيط الحياة الاجتماعية واختزالها في صور أولية بسيطة[13]

   وفي مكان آخر يقول ديوي:”المدرسة هي قبل كل شيء مؤسسة أوجدها المجتمع لإنجاز عمل خاص، هو الحفاظ على الحياة الاجتماعية وتحسينه”[14]

     وتكمن وظيفة المدرسة كما يرى كلوس clous في تحويل مجموعة من القيم الجاهزة والمتفق عليها اجتماعيا إلى المنتسبين إليها من طلاب وأطفال وتلاميذ، وقد مارست المدرسة هذا الدور في العصور القديمة والوسطى كما هو الحال في القرن التاسع عشر[15]

    تناول أهمية المدرسة لا يمكن أن يتم إلا ضمن حقل علائقي يربط هذه المؤسسة بمحيطها الخارجي وباقي المؤسسات الأخرى التي تهيكل فضاء المجتمع، لكن ذلك لا يجب أن يبعدنا عن تبصر نوع من الاستقلالية التي تتميز بها المؤسسة، لأنه لابد أن تحضى بنوع من الاستقلالية وإلا فإنها لن تكون كذلك، أي أنها لن تكون مؤسسة بل ستكون مجرد ملحقة تابعة لمؤسسة أخرى، فإذا كانت أهداف وسياسة المؤسسة تفرض عليها فلا يجب أن ننسى أن المؤسسة ليست مؤسسة فقط ولكنها أيضا أساتذة وتلاميذ وفاعلين آخرين، لهم أهداف وتصورات أخرى يحملونها معهم ساعة دخول المدرسة، مما يجعل من المدرسة فضاء كبير للتواصل والتلاحق بين مجموعة من الصيرورات التي تخترق جسد عملية التمدرس التي تدعي المدرسة أنه هدفها الأول.

  إن علاقة المدرسة بالمجتمع ظلت دائما جد متشعبة، وربما أبعد مما يمكننا أن نتصور، لقد كانت المدرسة ولا تزال رهان المجتمع من أجل حفظ وجوده وتحقق استمراره. إنها الرهان الذي فرض على مكونات المجتمع والتي دخلته من أجل أن نكتسب قيمة داخله ومن أجل أن تجد مكانة متميزة ووضعا مختلفا.

    ورغم هذه الأهمية التي تكتسيها المدرسة باعتبارها إحدى الأدوات المهمة التي ظلت في مختلف مراحل تطور الكائن الإنساني، وفي كل المجتمعات دعامة أساسية في يد الفئات المهيمنة اجتماعيا، والتي سخرتها لخدمة أهداف معينة، سواء تم ذلك بشكل واع أو غير، كما في العديد من الدراسات السوسيولوجية أو التاريخية التي تناولت الأنساق التربوية في مختلف أنحاء العالم وعلى امتداد عصور متنوعة فإن هذه المقاربة تحجب الدور الذي لعبته المدرسة في صيرورات التغيير التي شهدتها العديد من المجتمعات، وكانت عاملا محركا لصيرورة التغيير الثقافي بدل أن تقصر جهدها على تكريس الثقافة المهيمنة للنمط السوسيوثقافي السائد.

      ضمن هذا المنظور نجد أن دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية لا يقل عن دور الأسرة، وقد قيل الكثير عن المدرسة المغربية، كما تم تنظيم ملتقيات وندوات كثيرة لأجل إصلاحها وإصلاح نظام التربية والتكوين، لكن تأثير كل ذلك على مستوى الممارسات التربوية والبنيات المدرسية ظل محدودا جدا، ولا نود أن ندخل في تفاصيل بعض مظاهر أزمة العملية التعليمية في المغرب، حيث لا يتسع المجال هنا لمناقشتها وإنما ما نود أن نشير إليه هو أن المدرسة كما الأسرة لها دور كبير وفعال في تنشئة الطفل، وذلك عبر مروره بعدة عوامل وتحولات على المستوى العلمي والثقافي والعلاقات داخل المدرسة.

2-الطابع الاجتماعي للمدرسة.[16]

     بالرغم من أن المظاهر الأولى للتنشئة الاجتماعية تبدأ وتترعرع في جو الأسرة حتى وصفت أنها المؤسسة التربوية الأولى التي يبدأ فيها الطفل حياته كونها تقوم بدور هام في تشكيل الاتجاهات الأساسية لنمط شخصية الإنسان ونوع علاقته مع الآخرين ونمط تكوين اتجاهاته وميوله. إلا أنها لم تعد تستأثر بالتنشئة وحدها في عالمنا المعاصر نتيجة التفجر المعرفي والتقدم العلمي وثورة الاتصالات الهائلة مما أدى إلى الاهتمام بالتعليم عن طريق المدارس التي أنشأها المجتمع لخدمة أغراضه وأهدافه ومن تلك الأغراض تربية أبناء المجتمع وتنشئتهم، وحيث أن المدرسة تملك الفرصة الأكبر في تربية النشء من بقية المؤسسات الاجتماعية الأخرى، فحري بنا أن تتعرف في هذا البحث المبسط والمتواضع عن دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية.

      تكون المدرسة مؤسسة اجتماعية لأنها نظام اجتماعي، مهمتها” تكوين مواطن المستقبل وتربيته”؛ تكوينه عن طريق تعليمه وتأهيله، وتربيته عن طريق تنشئته اجتماعيا، فالمنظور السوسيولوجي يؤكد على اعتبار المدرسة مؤسسة اجتماعية، والوظيفة الاجتماعية المنوطة بالمدرسة هي، أساسا، وظيفة التطبيع الاجتماعي الذي تمارسه على المتلقي/ الناشئ، محاولة تشريبه قيم ومثل، ومعايير ومعتقدات المجتمع الذي ينتمي إليه، أي ثقافته السائدة.[17

خاتمة:

   حاولنا في نطاق هذا المقال رصد سوسيولوجيا المدرسة، ولتحقيق هذه الغاية عملنا في البداية على وضع ثلاثة محاور، الأول تطرقنا فيه إلى مفهوم المدرسة باعتبارها مؤسسة اجتماعية توكل لها مهمة الضبط الاجتماعي، وهي مؤسسة شكلية معقدة تشتمل على سلوك مجموعة كبيرة من الفاعلين وتنطوي على منظومة من العلاقات بين مجموعات تترابط فيما بينها بواسطة شبكة من العلاقات، ومنه تم الحديث عن نشأة وتطور سوسيولوجيا المدرسة التي ظهرت نتيجة لعدد من التطورات الاجتماعية.

    أما المحور الثاني فقد مكننا من الحديث عن المدرسة في النظريات السوسيولوجية التي تناولت موضوع المدرسة، حيث اقتصرنا على نظريتين؛ الاتجاه الدوركايمي الذي يرى أن التربية والتعليم كمفاهيم تدخل في إطار التنشئة الاجتماعية. ونظرية بيير بورديو وجون كلود باسرون التي تتميز بالطابع النقدي في قراءتها للظواهر الاجتماعية.

    وقد شكل المحور الثالث والأخير المتعلق بالمدرسة مؤسسة اجتماعية وقناة إيديولوجية رسمية، محطة مهمة حيث رصدنا من خلاله أهمية المدرسة في تنشئة الطفل، ومكننا من إبراز الطابع الاجتماعي للمدرسة.

     وفي الأخير نأمل أن يكون هذا العمل – الذي لا ندعي من خلاله الإحاطة الشاملة بالموضوع – مساهمة على قدر من التواضع ضمن المساهمات الجادة المؤسسة للأرضية العلمية السوسيولوجية.

لائحة المراجع:

المراجع بالعربية:

  • احمد أوزي “مجلة علوم التربية دورية مغربية فصيلة متخصصة تبعث المراسلات باسم مدير المجلة، الرباط، التعاهد العدد الخامس والأربعون، أكتوبر2010.
  • د. علي حاسم الشهاب، علم الاجتماع المدرسي: بنيوية الظاهرة ووظيفتها الاجتماعية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2004.
  • محمد مومن: ظاهرة أطفال الشوارع بالمغرب، دراسة ميدانية بالرباط وسلا.
  • فاوباو محمد في كتابه “سوسيولوجيا التعليم بالوسط القروي، دراسة نظرية وميدانية في مسألة لا تكافؤ الحظوظ”، تقديم عبد الكريم غريب، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب 2001.
  • بيير بورديو في كتابه “السلطة الرمزية”، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، ط2 1990.
  • د. تيسير شيخ الأرض، فلسفة التربية عند جون ديوني، مجلة النعم العربي، العدد الخامس.
  • مصطفى محسن: المعرفة والمؤسسة: مساهمة في التحليل السوسيولوجي للخطاب الفلسفي المدرسي بالمغرب، دار الطليعة بيروت ط1 .1993..

المراجع بالفرنسية:

1-beaudot alain.sociologie de l école. Durand. paris ,1981

2-Van zanten. A. l’école, l’état des savoirs, paris, la découvert, 2000

3-Arnold clausse initiation auxsciense de l’éducation ov .cite.

 

د. بنعاشر الركيك – مدينة سيدي يحيى الغرب 

 أستاذ مادة الفلسفة وباحث  في علم الاجتماع

[1] -د احمد أوزي “مجلة علوم التربية دورية مغربية فصيلة متخصصة تبعث المراسلات باسم مدير المجلة، ص6333 الرباط، التعاهد العدد الخامس والأربعون، أكتوبر2010.

[2] – د. علي حاسم الشهاب: علم الاجتماع المدرسي بنيوية الظاهرة ووظيفته الاجتماعية. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت لبنان2004،ص20.

[3] -محمد مومن: ظاهرة أطفال الشوارع بالمغرب، دراسة ميدانية بالرباط وسلا ،ص 69.

[4] -علي جاسم الشهاب، مرجع سابق

[5] -beaudot alain.sociologie de l école. Durand. paris ,1981,p77

[6] Van zanten. A. l’école, l’état des savoirs, paris, la découvert, 2000

[7] أورده فاوباو محمد في كتابه “سوسيولوجيا التعليم بالوسط القروي، دراسة نظرية وميدانية في مسألة لا تكافؤ الحظوظ”، تقديم عبد الكريم غريب، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب 2001ص14.

[8] هذه الفكرة تحدث عنها بيير بورديو في كتابه “السلطة الرمزية”، ترجمة عبدالسلام بن عبدالعالي،دار توبقال للنشر،ط2 1990 ص57.

[9] بيير بورديو “مرجع سابق ص52.”

[10] -مفهوم الهابتوس يعد من المفاهيم الأساسية عند بيير يورديو ونجدها في معظم إنتاجاته السوسيولوجية، ويناقش به مجمل القضايا الاجتماعية لأنه يعتبره تلك الصور الفردية والجماعية التي تعكس الواقع الاجتماعي بمختلف حيثياته، فالهابتوس الذي يعرفه بورديو بنسق الاستعدادات المكتسبة، يعد نتاج لبنية اجتماعية معينة ولواقع تربوي تعليمي، وينتج لنا ممارسة اجتماعية تتخد تجليات فردية وجماعية تكون متأثرة بالبيئة الاجتماعية السائدة لأن الفعل قبل أن يحدث في المجال يحدث في الذهنية والتصورات والتمثلات أي داخل منظومة الإدراك والتقدير.

[11] -بيير بورديو” مرجع سابق ص57.

[12] -علم الاجتماع المدرسي، مرجع سابق ص 138

[13] -د.تيسير شيخ الأرض ،فلسفة التربية عند جون ديوي، مجلة النعم العربي، العدد الخامس ص373

[14] -فلسفة التربية مرجع سابق ص 378.

[15] -Arnold clausse initiation auxsciense de l’éducation ov .cite.

[16] مصطفى محسن: المعرفة والمؤسسة: مساهمة في التحليل السوسيولوجي للخطاب الفلسفي المدرسي بالمغرب، دار الطليعة بيروت ط1 .1993.ص22.

[17] -مصطفى محسن” مرجع سابق “ص22.

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

One comment on “بنعاشر الركيك  يكتب: نحو فهم سوسيولوجي للمدرسة    

  1. منصة واعدة نتمنى لكم التوفيق و مزيدا من التالق

: / :