ككل سنة تحضرني طقوس الرحيل… لم يكن رحيله عاديا، كان رحيله مختلفا. عندما كان محتضرا، كان يبتسم وكانت روائح زكية تعطر المكان الذي ينتظر فيه موعد ذهابه… يا الله! يا الله! من أين أتت هاته الروائع الجميلة؟!
مازلت أتذكر جيدا، عندما تعب ولزم الفراش، كان يقرأ عليه كل ليلة آيات من القرآن وابتهالات كما كان يستمع إلى كلمات تمدح سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
نعم، كان يستمع كل ليلة إلى أمداح نبوية وقراءة قرآن بأصوات حية وليست افتراضية عن بعد، ليست منبعثة من اليوتيوب أو غيرها من الوسائل الإلكترونية…
يا الله! كم كان رحيلا هادئا…
لما كان أهل البيت يطلون عليه، وجدوه يلحس أصابعه كأنه كان يأكل طعاما لذيذا، وكان أبي رحمه الله وقتها قد امتنع عن الأكل وكذلك الكلام…
في يوم رحيله، دخلت عليه، حرك يده ووضعها بيدي كما لو كان يريدني أن أعاهده على شيء. قال أبي: أكملي! فرحت لسماع صوته، ثم سألته: ماذا أكمل يا أبي؟ لكن لا جواب.
في يوم رحيله وبعد رحيله في تلك الليلة، ليلة الفاتح من محرم، اكتشفت أنه أوصى كل من دخل عليه من أولاده… قال لكل واحد منا كلمة واحدة، لكن كان لها معنى يحمل كلمات شتى…
مرت سنون على رحيله، لكني مازلت أحس ابتسامته تحيا بدواخلي.
مرت سنون على ذهابه، لكني مازلت أحس هدوءه يرويني كلما تعبت وكلما يئست…
يا أبي، في هذه الليلة المباركة أطلب الرحمة والمغفرة لك ولكل موتى المسلمين.
يا أبي، شكرا لك ما حييت!
يا أبي، لم تنهرني يوما، فهل يجوز لي أن أقول لك “الله يرضي عليك يا با”؟!
ككل ليلة من الفاتح من محرم تحضرني ذكرى رحيلك، فأحس ابتسامتك تطمئنني، حتى أني رحلت في إحدى الليالي وكتبت كلمات قاسمتها منذ زمن أصدقائي في العالم الأزرق…
سأروي لك ما كتبت يا والدي:
“إنها ليلة الفاتح من محرم، ليلة ولا كل الليالي، ليلة مميزة، ليلة كلها خيرات. رفعت عيني للسماء، سبحان المصور العظيم، نجوم متلألئة وزرقة! صليت على نبي الرحمة محمد أحمد.
سافرت في الزمن بين المحرمين، محرم الماضي ومحرم الليلة. تذكرت أشياء كثيرة وكثيرة. تذكرت أول رجل استقبلني في قصر الحب والعطاء، وتذكرت طفولتي بين أحضانه، وتذكرت مراهقتي وشبابي في بلاطه الجميل، ثم تذكرت رحيله. كنت أنت يا والدي العزيز. لمحت عيني تذرف دموعا، أوقفت سفري، وقلت إنا لله وإنا إليه راجعون.
كان ﻻ بد لي أن أنهي سفري، سجنت دموعي لأني عرفتك دوما صديقا للابتسامة. نزلت بأقرب محطة، خلتها أن تكون ركنا ما في بيتنا، غير أني نزلت في مكان خال من الناس. أدرت رأسي يمينا ويسارا ثم أعدت الكرة كشخص منهك يحاول مداعبة رقبته. لا أحد في المكان! أعدت حركاتي الرياضية، رفعت رأسي للسماء، المكان به سماء أيضا! حضنت تلك الدنيا الهادئة بذراعي…
طال الهدوء وطال غياب الناس. بدأت أستغرب الأرض التي أوقفني بها قطار سفري في الزمن! من سيدلني على اسم هذه المحطة؟ لا بد لي من أتحدث إلى شخص ما هنا. ماذا لو طال بي المكوث هنا؟ ماذا لو لم أعرف طريق الرجوع إلى بيتي؟ المكان خال! ربما نسيت كيف يتكلم الإنسان لو بقيت صامتة لمدة طويلة! لطالما آمنت بأن المشي والكلام تعود…
جلست وفكري شارد في أمر هذا المكان… فجأة ألمح ظلا طويلا. من يا ترى؟ لمن يكون هذا الظل؟
كان رجلا يشبه في هيئته الفنانين، ويرتدي قبعة أمريكية. هذا ما لمحته عيني.
- مساء الخير سيدتي. قال الرجل
فرحت كثيرا، أخيرا هنالك شخص سيخرجني من شرودي وصمتي…
- مساء الخير سيـدي، هلا تفضلت وأخبرتني عن اسم المحطة؟ إني أرى شارعا لكن لم يسبق لي أن مررت به…
أجاب الرجل:
- نعم سيدتي، هذا مكان يستريح فيه المسافر إلى زمن الذكريات. إنها محطة تأمل! محطة يحضر فيها الجمال والورد، ويجتمع فيها الحب والود إنه مكان تحيا فيه الحياة من جديد.
- شكرا سيدي، ألا يعيش أناس هنا؟
ابتسم الرجل وقال: إني أرى دموعا في عينيك دعيني أمسحها، فأرضنا ﻻ تسمح بالدموع. إنه قانون هذا المكان.
- لكن من تكون يا سيدي؟ …
استأنف الرجل كلامه متجاهلا سؤالي بل كل كلامي وقال:
- سيدتي، إنه مكان وزمن ﻻ يقبل بالحزن والذكريات المؤلمة. إنه مكان كما قلت لك تزوره الابتسامة والحب. سيدتي، أنت ضيفتنا، فأهلا بك وسهلا…
أحسست الرجل يتكلم بسرعة، ورغم ذلك كانت كلماته مفهومة ومسموعة جيدا. كانت سرعة جميلة.
- شكرا سيدي. هل أتشرف بمعرفتك؟ من أنت يا سيدي؟ هل تكون ملك هذا الزمن وهذا المكان؟
تجاهل الرجل أسئلتي، وربما كان له الحق في ذلك، فلم أقدم له نفسي حتى يجيب.
- سيدتي، في هذه الاستراحة توجد هدايا كثيرة لكل الزائرين. أنت أيضا لك منا هدية، أرجوك! اقبليها!
كنت يا والدي محتارة في مكان يشبه الدنيا ويشبه الخيال في ذات الوقت! شرت مرة أخرى، سئلت كثيرا وكثيرا… هدية مكان يسكنه الجمال! هل أهذي يا أبي؟ ما عشته يا أبي يومها حقيقة في يقظة!
بينما كنت شاردة ومندهشة، اختفى الرجل!
ناديت بعلو صوتي، أينك؟ أين اختفيت؟ سيدي! سيدي! لا أحد يجيب. أدركت عندها معنى السرعة التي كان يتحدث بها إلي.
اختفى الرجل وبجانبي هدية من ذاك المكان. اختفى الرجل وبجانبي هدية من رجل غريب. إحساس غريب يا والدي يجمع بين القلق والفرح، بين الدهشة وحب الاستطلاع.
اختفى الرجل دون أن أعرف اسمه وهويته.
مازلت يا أبي أتذكر نصحك لي أنت وأمي: لا تتكلمي مع الغرباء، لا تأكلي من يد غريبة، ولا … ولا … لكن يا أبي ما عساني كنت فاعلة في مكان خال من الناس؟!
احترت في أمر الهدية، هل أفتحها أم لا؟ كان فضولي أقوى مما أوصيتني به يا والدي: لقد كشفت عما بداخل الهدية.
يا الله! هدية بها علبا ﻷلوان جميلة ولوحة لم يكمل رسمها، ورسالة منه بها ما يلي:
بحثت عنك طويلا حتى زرت زمني، رجاء أتمي لوحتي. حرري وحدتي! وسافري بي إلى زمنك، فأنا عاشق للجمال، وعاشق لألوان الطيف. أنا يا سيدتي عاشق للحب والورود. أنا يا سيدتي عاشق للحبر والحروف. أنا يا سيدتي عاشق للطرب والغناء. أنا يا سيدتي عاشق للمسرح والحياة. لا أحمل اسما واحدا لكني أقرب الاسمين الى قلبي هما الفن والحرية. الجمال يا سيدتي لا يحب العزلة للأبد. الجمال يا سيدتي يعشق التباهي. رجاء أتمي لوحتي.
- ربي، ما هذا اللغز؟ أنا ﻻ أرسم، ﻻ أرسم. أين اختفيت أيها الغريب!؟
وبنبرة ضاحكة وساخرة، قلت لم يعد غريبا إن كان فنانا. ثم تابعت ندائي: أيها الفنان؟ أيها الفنان؟ وﻻ من يجيب.
يا والدي، لا تغضب مني إن كتبت في تلك الليلة، ليلة الفاتح من محرم إني لا أرسم، فأنا أعرف أنك فنان وكنت تحب طي الورق. يا والدي لا تغضب مني إن قلت إني لا أرسم، فأنا لم أكن أقوى على تتمة لوحة ذاك الإنسان رغم أنك كنت تراني أرسم.
أبي يا صاحبي العزيز والغالي، في كل سنة في ليلة من الفاتح من محرم تحضرني ذكرى رحيلك، تحضرني ابتسامتك الجميلة والهادئة. أبي يا صاحبي الغالي، لم ابتسامتك لها جاذبية خاصة وترحل بي دائما إلى دنيا تنسيني غيابك وحنيني إلى صوتك؟ لقد أخذتني ابتسامتك بعد مرور أربع سنوات إلى ذاك العالم، إلى نفس المحطة حيث تركت هديتي.
اللوحة في مكانها والرسالة في مكانها لم يبل ورقها! قرأت الرسالة من جديد، أعدت وأعدت قراءتها. شممت عطرا زكيا يفوح منها. حضنت اللوحة حضنا عميقا. حملت نفسي وتناولت قلما بين أناملي. استحضرت ابتسامتك، استحضرت كل شيء فيك ورسمتك. نعم يا صاحبي، لقد رسمت ملامح وجهك وحكتها بحبر قلم الرصاص. هل نجحت والدي؟ أحس ابتسامتك تجيبني وتقول لي: نعم نجحت يا ابنتي!
بينما أنا كذلك والدي، سمعتك تتحدث بنفس النبرة التي تحدث بها إلي صاحب الظل الطويل: رجاء أتمي اللوحة!
أبي يا صاحبي، لا أخفيك أني في رحلتي الأولى قد بقيت سجينة الأنامل التي مسحت دموعي، ولا أخفيك أيضا أني تمني كثيرا لو تجمعني الأقدار يوما ما بأنامل الحب والجمال. هكذا سميت الأنامل التي سكنت آلامي.
أبي يا صاحبي، لقد أدركت اليوم مدى جمالية الإصغاء إلى الذات، فبفضل السفر إليها يحيا الحب وتتجدد الحياة وتنمو ورود القلب.
أبي يا صاحبي، لقد أدركت اليوم أن الجلوس إلى الذات يحيي الأمل والتفاؤل.
أبي يا صاحبي، لقد أدركت اليوم أن السفر إلى الذات إنما هو سفر تعارف وتصالح واكتشاف لطاقات قد تكون راقدة.
خديجة الخليفي – مدينة سلا
الصورة المرافقة هي لوالدي رحمه الله وفيها أحاول رسمه
اترك تعليقا