عبد اللطيف ضمير  يكتب: البحث عن الهوية وصراع الأنا في رواية نوميديا

18 أغسطس 2020

 

 

تدور أحداث رواية نوميديا للكاتب المغربي طارق بكاري، حول شخصية “أوداد”، أو مراد الوعل وهو الشاب الذي يبحث عن هويتة في مجتمع متناقض، بعدما أجبرته الحياة على خوض هذه المعركة التي كان سيكون في غنى عنها، لو قدر له أن يكون كباقي الأطفال ولم يكن لقيطا، هذا الشاب يعيش حياة صعبة، تطبعها المعاناة والمأسات، في قرية “أغرم” إحدى القرى المحافظة في الجنوب الشرقي للمغرب، التي ما تزال تحافظ على التقاليد وتقدس العادات، وتعيش على أثر الأساطير في أغلب حياة سكانها اليومية، بالرغم من التحولات الكبيرة التي شهدها المغرب خلال السنوات الأخيرة، هذا الشاب الذي رمته الأقدار بهذه القرية التي انتسب لها عبر التبني، ولا يعلم حقيقة انتسابه لها أم العكس، لقد وجد نفسه مكرها ومرغما على العيش فيها، نتيجة لخطيئة إرتكبها والداه بإسم “الحب”.
و”نوميديا” التي جاءت في عنوان الرواية، مملكة أمازيغية قديمة تستوطن شمال أفريقيا ممتدة من غرب تونس لتشمل الجزائر وجزءا من شمال المغرب، وعرفت بكثرة الأساطير التي كانت تحكى عنها، لأنها كانت أشبه ما يكون بالإغريق، وتحدث عنها أكثر من كاتب في روايته، ما جعلنا في الوهلة الأولى من خلال ملاحظة العنوان نتوقع أن يكون موضوع الرواية إحدى أساطير هذه المملكة، و نوميديا هذه شخصية من شخصيات الرواية، لكنها ذات أبعاد تتجاوز الواقع، و الزمان، و المكان، لأن الكاتب جعلها محملة ومثخنة بالدلالات الواقعية، والتاريخية، والوجدانية، والفكرية، والسياسية، ونافذة نطل بها على المجتمع المغربي المتناقض.
وتكشف لنا هذه الرواية الصادرة عن دار الآداب سنة 2016، وهي الرواية الأولى ضمن مشروع الكاتب طارق بكاري، وقد صنفت من بين أفضل الروايات، وكانت من بين الأعمال المرشحة لجائزة البوكر العالمية، حقيقة المجتمع المغربي، من خلال الشخصية المحوية التي تدور حولها الأحداث (أوداد)، الطفل الذي تخلى عنه والداه وهو رضيع حديت الولادة، في الشارع، لينتقل إلى أسرة بالتبني، ويعيش في كنفهم، حيث تبدأ رحلة إكتشاف هذا المجتمع وعوالمه وتركيباته، من خلال ما كان يتعرض له من طرف زوجة المتبني، والناس من حوله، خاصة وأننا أمام فضاء مكاني مغلق، يتمثل في بادية من بوادي الأطلس المنسي، بعيدة عن الحضارة والتحولات الكبرى، الأمر الذي جعل الطفل اللقيط مرتعا لكل الأساطير والتخيلات التي يؤمن بها أهل القرية.

لقد ترعرع (أوداد) داخل أسرة تبنته وهو مازال رضيع، لأنها لم تكن تنجب أطفالا، عاش طفولته صعبة للغاية، في مواجهة مع أهل القرية الذين يعتبرونه لعنة نزلت عليهم، ويلصقون كل ما يحدث للقرية من كوارث له، بناء على الثقافة التي يؤمنون بها والمستمدة أساسا من الأسطورة، الشيئ الذي جعل حياته مأساوية أكثر، فهو لقيط بدون هوية ويعيش حياة التبني، ما شكل له نوعا من الكدمات النفسية والمشاكل، وكلما كبر الطفل كبرت معه مشاكله وازدادت المعاناة أكثر، لأن أفظع شيء يمكن للإنسان أن يعيشه في مجتمع متناقض في النظرة إلى الأشياء، هو البحث عن الهوية، لأن الإنسان ينظر إلى الآخر من منظور نسبه ومكانته في المجتمع، ولا ينظر إليه من الجانب الإنساني، مهما حاولنا أن نكون إنسانيين، فالبطل لم يختر أن يكون لقيطا لكن القدر قاده ليكون على هذا النحو، ومع أنه غير مذنب فلا يحق لنا كمجتمع محاسبته على أخطاء الآخرين.

وتدرج الطفل (أوداد)، بين أسلاك الدراسة وكان ناجحا و متفوقا على المستوى الدراسي، رغم كل الظروف الصعبة التي كان يمر بها، ورغم ما يحمله داخليا من أفكار سودوية عن المجتمع، انطلاقا من فكرة رفض والداه له، ثم رفض أهل القرية، بالإضافة إلى رفض الموت له عدة مرات، بعدما حاول أكثر من مرة أن يقتل نفسه، ولكن الحياة كانت رحيمة به وتقبله كل مرة، وأبقته على قيد الحياة حتى بدأ يعيش نوعا من الإنفراج، بعد الإنتقال إلى المدينة وإكمال دراسته والإبتعاد عن المعاناة التي سببها له أهل القرية من خلال اللعنات التي ألصقت به، لكن هذا الإنفراج لم يدم كثيرا ليعيش نوعا آخرا من الرفض، من طرف زوجة المتبني بإعتباره لقيط ولعنة عليهم، حين سيطرد خارج البيت، ويعيش في كنف أستاذه الذي كان يدرك تفوقه الدراسي، حيث سيقدم له المساعدة ويسكن معه إلى أن تخرج أستاذا.

وفي فترة حيت تدريسه تعرف (أوداد) أو “مراد” الوعل، على شابة تدعى “خولة” وهي طالبة، وبدأت قصة حب بينهما نتج عنها حمل، وهي قصة أشبه بما عاشه البطل نفسه، وكأن التاريخ يعيد نفسه من خلال الأحداث، بعدما تخلى عنها وسافر إلى فرنسا بخصوص عمله تاركا حبيبته “خولة” حاملا، وهذا ما زاد من معاناته وحزنه، بعدما قررت عشقته أن تضع حدا لحياتها، مما جعله يلجأ إلى طبيب نفسي، هذا الأخير الذي سيؤزم الوضع أكثر، بعدما قام بيبع معلوماته الشخصية وكل تفاصيل حياته إلى كاتبة روائية فرنسية متخصة في دراسة الشعوب وتقاليدها وعاداتها، تدعى”جوليا” التي كانت تبحث عن نماذج تكون منطلقا لتجارب دراستها، ولكنها لم تكتفي بذلك فقط، بل دخلت إلى حياته بشخصية عاشقة وهمية، مستغلة الفراغ العاطفي والروحي الذي كان يعيشه البطل، لكي تكتشف أهم المعلومات الصغيرة عن حياته لإغناء روايتها القادمة، حيت عرض الطبيب على (أوداد) بأن يسافر إلى قريته لكي يرتاح ويعيد صياغة حياته من المنطلق، حيث استفردت به “جوليا” لتكشف العوالم الداخلية لشخصية مراد الوعل.

 

عبد اللطيف ضمير – مدينة الجديدة

 

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :