“شفيرة بلال”، رواية رمقتها عيناي صدفة على فراش زميلي في منزل بأحد البوادي حيث نشتغل، حينها كنت غارقا في قراءة الأدب المغربي، كنت أسير رواية “الموريسكي” ثم “ربيع قرطبة” للكاتب المغربي حسن أوريد، أسبح في لج الأندلس وأهيم في حب مبانيه وحدائقه وشعره، حكامه وحياة أهله وحروبهم، فلم أبد أي إهتمام بقراءتها حتى مررت بمقال يتحدث عنها، وشدني فقرأته بتمعن شديد، تبدو للوهلة الأولى ومن عنوانها أنها رواية دينية كلاسيكية، أو من الخيال العلمي، وأنا ذو طبع يميل إلى التاريخي، لكنها على العكس من ذلك تماما، خاصة وأن الغوص فيها قادني إلى عمق دلالتها وكنه مضمونها، إنها رواية تكشف النقاب عن العبودية و أشكالها المتعددة لكل شخصية من شخصياتها، وفي كل الأحداث التي حملتها صفحاتها الطويلة، فكنت أجد نفسي شخصية من شخصياتها، بكل ما تحمله الشخصية من هموم وإسقاطات وإيديولوجيات.
و رواية للكاتب شفيرة بلال للكاتب والطبيب العراقي ” أحمد خيري العمري “، تروي لنا قصةَ شخصٍ ملحد، يهتم بصناعة الأفلام، يشتغل على شخصية بلال بن رباح الرجل ذو العزيمة القوية، ليكون موضوع فلمه المقبل، وبلال هذا كما هو معروف لذى المسلمين والعاله كله، أنه مؤدن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي عاش العبودية بكل أنواعها حتى جاء الإسلام وخلصه منها، وأصبح حرا، عاش العبودية لأن لونه أسود ولا نسب شريف له، هذه الشخصية ألهمت كاتب السيناريو الذي قام بجمع المعلومات التاريخية المتعلقة بالفترة التي سيتحدث عنها الفيلم، لكنه إهتم بموضوع العنصرية بشكل كبير، لأن بلال عاش في كنف العبودية والعنصرية، قبل أن يخرج إلى عالم الحرية.
الكاتب السيناريست “أمجد الحلواني”، الشخص الملحد، وفي خضم بحثه هذا عن شخصية بلال وكل ما يتعلق بها، سيصادف ذات يوم رسالة على بريده الإلكتروني، وكانت الرسالة من طفل صغير السن كبير العقل، أمريكي يعيش في مدينة نيويورك الأمريكية، وقد أصابه مرض السرطان الذي قلب حياته رأسا على عقب، وحولها إلى جحيم، وكان قد سمع عن قصة بلال الحبشي كثيرا، وكفاحه الطويل من أجل التحرر من قيود العبودية، لقد أصبح هذا الشاب الذي يحمل نفس الإسم “بلال” مرتبطا أشد الارتباط بهذه الشخصية التاريخية التي ستغير حياته وأفكاره، لقد أصبح بلاد الحبشي المسلم رمز وأيقونة الطفل الأمريكي الذي خارت قواه أمام المرض، وأصبح يرى نفسه في شخصية بلال الحبشي، وأنه يمثله ويمثل كل أصحاب البشرة السوداء، الأمر الذي كان يضايقه بشكل كبير ويؤثر على نفسيته، وكانت الرسالة تحمل طلب الطفل بلال من المخرج أن يكون إحدى شخصيات فلمه، بعدما سمع بهذا الفيلم في أحد المواقع الإلكترونية.
شخصية الرواية التي تدور حولها الأحداث وترتبط بها كل الأمكنة والأزمنة والشخصيات، الطفل الذي أسماه أباه “بلال”، قبل أن يتركه لأمه التي كانت الأم والأب في الوقت نفسه، حيث سيصاب بعدها بمرض سرطان الدماغ، وباتت حياته على مشارف الموت، لذلك كانت أمنيته أن يخرج هذا الفلم إلى الوجود ويشاهده قبل وفاته، لقد مل من العنصرية والنفور الذي كان يلاقيه من أقرب الناس إليه، ومن طرف أصدقائه وذلك لكونه ذو بشرةٍ سوداء و سمين البُنية، حيث أن الكاتب برع بأسلوب رائع في الكتابة عن العنصرية في روايته، عبر شخصية “بلال” الطفل، وجعلها تيمة روايته، هذه العنصرية التي كان يُعامل بها “بلال” من طرف أصدقائه ومجتمعه و لم يحصرها عن هذا الموقف فقط بل بصفةٍ خاصة، لأنها منتشرة بشكل كبير جدا في المجتمع الأمريكي، أو ما يعرف بصراع البيض و السود تاريخيا، هي التي عومل بها “بلال الحبشي” قبل الإسلام، لذلك فالتطرق لهذا الموضوع أخذ من الكاتب حيزا كبيرا، وكأنه يحاول معالجته وإيجاد الحلول المناسبة له، كما حدث مع شخصية بلال الحبشي، الذي تحرر من قيود العبودية بفضل الإسلام.
إن التمعن في عمق رواية “شفيرة بلال”، يحملك إلى اعتصار الألم أحيانا واكتساب الشجاعة لمواجهة التحديات وصعوبات الحياة، أمام ما يخفيه الناس وما يضمرونه، فأم بلال “لاتيشا” كانت تعلمُ بمرضه لكنها لم تكن تدري أن بلال يعلمُ ذلك، وقادر على الوقوف في وجه هذا المرض اللعين، لذلك لم تصارحه لصغر سنه حسب زعما، وما سينتج عن ذلك من صدمات نفسية في حالة مواجهته بالحقيقة، لكن بلال هذا الطفل الصغير، بدأ بالبحثُ عن شخصية تبعث فيه روح الإباء والقوة من جديد، وتعطيه أمل البقاء في الحياة، تمده بالعزيمة والإصرار والإرادة من أجل أن يتجاوز هذه المحنة التي يمر منها، لقد كان في بحث مستمر عمن يخلصه من إجتياز هاته الطريق الأليمة التي جعلته يتألم في صمت و يسقط رغم قوته، ينهزم و يقنط، لقد جعل منه المرض ذلك الطفل الضعيف جسديا و نفسيا، شخصاً منعزلا لا يحدث أي إنسان؛ جعله تائها في حلقات الحياة، فكان يشعر بألم الموت كل يوم يعتصره، وأن أيامه معدودة، وبعدها سيموت فأي لحضة، ولكن بالرغم من ذلك ظل يبحث عن الشخصية التي ستخرجه إلى حياة ثانية، حتى جاءت صدفة مشاهدته لمسلسل عن “بلال الحبشي”، الشخصية التي سيلبسها ويهيم في حبها، التي ستغير حياته وتعطيه القوة.
بطل الرواية بدأ رحلة البحث عن الشخصية التي سيلبسها، في المجلات و الويكيبيديا و على اليوتيوب و في كتب التاريخ لأيام طويلة، حتى تمكن من جمع معلومات كثيرة عنها، عن صمودها ومواجهتها للعبودية والعنصرية، وخروجها من ذلك بعد دخولها في الإسلام، لقد وجد بلال في شخصية بلال الحبشي، رجلا غير عاديا من خلال الإصرار على نيل الحرية الذي يملكه، والعذاب بكل أنواعه وأشكاله الذي مر به لسنوات عديدة، سواء عندما عاش العبودية أو بعدما دخل الإسلام، لكونه يدافع عن هدف معين في الحياة، ويؤمن به كل الإيمان، لذلك فإن عليه تحمل كل شيء في سبيل عيش حياة جديدة رغم المرض المميت، لقد تحمل بلال الحبشي السوط و الشتم و الضرب؛ و الصخرة التي كانت على صدرِه من أجل إعلاء دين الإسلام، من أجل الإله الواحد الأحد ؛من أجلٍ قضية ربانية إيمانية، وهذا ما كان الطفل يسعى إليه، أي الوصول إلى هدف معين يبقيه رغم كل الظروف صامدا قويا نفسيا وجسديا لحياة أخرى، كما صمد بلال الحبشي ونال الحرية من العبودية وأصبح مؤدن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد أبرز الأسماء التي خلدها التاريخ الإسلامي.
لقد وجد بلال شخصية الرواية في بلال بن رباح عنوان الإصرار و العزيمة في كلٍ ألم يعتصره، وكل إساءة يتلقاها من الآخرين، لقد جعلته هذه الشخصية يؤمن أن الإيمان بالأشياء يزيد صاحبة قوة وإصرارا من أجل الوصول إلى أي شيء، وأن الإيمان فقط بالهدف المنشود والشيء المطلوب يحقق المعجزات، وهذا ما دفع شخصية روايتنا هاته إلى الإصرار على تجاوز مرضه و سخرية الناس منه و تجاوز الألم وكل ويلات المرض، لقد كان بلال الحبشي نقطة بداية “بلال” و عند الجميع، بداً من بلال نفسه حين قرر أن ينتصر على نفسه و على مرض السرطان، حين قرر أن ينتصر على العنصرية ونظرات الآخرين إليه، أن يواجه العالم بكل قوة رغم المرض، لقد ترك فينا أثرا يساعد الآخرين على السعي في سبيل التحرر من العبودية، لأن الإنسان أضحى عبيد لشهواته ولغرائزه، ﻷفكاره السودوية ولجدار الرمل الذي ظن أنه ﻻ يهدم، وفي مقابل ذلك هي دعوة صريحة لإمتلاك العزيمة والإصرار في سبيل تحقيق أهداف الحياة مهما كانت الظروف.
وزبدة الرواية أن الكاتب عالج فيها أكثر من قضية بأسلوب سردي سلس بعيدا عن تعقيدات اللغة، فكانت العنصرية والعبوية أهم ما تناوله، وكأنه يحاول أن يعالج هذه المواضيع من خلال دعوته الناس إلى الإلتزام بما جاء به الدين الإسلامي الحنيف، وهذا مفهوم وواضح من خلال اسطر روايته التي تدعوا المجتمع دينيا إلى تجنب العبودية والعنصرية مهما كانت الاختلافات بيننا، مرورا بضرورة امتلاك القوة والعزيمة والإصرار في سبيل تحقيق أهداف معينة، والتغلب على عراقيل الحياة ومعوقاتها، وانتهاء بمعالجة قضية الإلحاد، فالإنسان مهما فكر في التخلي عن الدين، لن يستطيع التخلي عنه، أو العيش من دونه، وسيرجع له في فترة من فترات حياته، ولقد دعا الكاتب من خلال معركة أحد أن التحول من الإلحاد إلى الإيمان يعطي للناس قوة وعزيمة في مواجهة ما يشوب الحياة من صعوبات، لأن الدين هو منهاج الحياة ودستور المجتمع، وأفيون الناس في الحياة، ولا قوة بدون الرجوع إلى الدين الإسلامي.
عبد اللطيف ضمير – مدينة الجديدة
اترك تعليقا