ظلت أحلامه تكبر يوما بعد يوم؛ مرت سنوات التعليم الأساسي مسرعة كلمح البصر، إلى أن وصل “أحمد” السنة الختامية التي عادة ما تنتهي بامتحان لابد منه، امتحان يسمح لمن اجتازه بنجاح يخول له العبور إلى مرحلة تعليمية أخرى لا تقل أهمية عن سابقته، كان معظم من وصل إلى هذه المرحلة ينتقل إلى ما بعدها إلا من أبى، فلم يكن النجاح رهين بالاستحقاق فقط، بل كانت تتدخل فيه مسببات أخرى يسهم فيها فاعلون كثر، وكلٌّ وغايته في ذلك..
أعد أحمد لهذا الامتحان ما استطاع من قوة، شمر على الساعد بالرغم من كثرة الانشغالات، فهو طفل كبير تجمعه بالغابة والبهائم والحطب-وغيرها من أعمال الكبار-علاقات وُدٍّ، فله مع كل تلك الأمور قصص تروى، أخذ على عاتقه تنفيذ تلك الأعمال الشاقة التي فرضت عليه قسرا، لكنه لم يكن يترك لها فرصة السيطرة على سويعات يومه المعدودات، سويعات كان يستغلها في لملمة بعض الدروس التي خُطَّت على أوراق عدد من الدفاتر التي ابيض لونها ثم امتزج بألوان جعلت منها لوحة فنية مزركشة.
كان أحمد يغتنم فرصة رغي الغنم بعد صلاة العصر مباشرة، فرب ضارة نافعة بالنسبة إليه، فقد كان يخرج إلى الغابة محملا بدفاتر وأوراق متناثرة، يختار للغنم مرتعا مناسبا ثم يمكث هو غير بعيد يراجع ويلخص ما تلقاه من دروس، وعينه لا تفارق غنمه الذي لطالما اعتبرها ملهمته في الصبر على الشدائد والصعاب..
مرت ليالي وأيام وهو بين مراجعة وحفظ وتلخيص للدروس إلى أن جاء اليوم المشهود الذي سيذهب فيه إلى مركز الامتحان الواقع ببلدة “المحارزة” وهي بلدة تقع بها المدرسة المركزية “أم البنين” التي تجاور المستوصف القروي قبل أن يصير أطلالا نسيا منسيا..
احتشد كم هائل من التلاميذ والتلميذات أمام باب المدرسة المركزية معقل المدير وأعوانه..، كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحا، دق جرس المدرسة، وسرعان ما ولج الكل-ذكورا وإناثا-إلى الساحة الكبيرة، كان قاسمهم المشترك وجوههم المصفرة والخوف الذي ما انفك يعلو محياهم..
استغرب أحمد لما رآه، كانت أول مرة يرى فيها كل هذه الأشياء، بل ذلك الكم الهائل من التلاميذ.. في هذه الأثناء توجه-كباقي أقرانه-صوب السبورة التوجيهية كي يطلع على المعلومات التي ترشده إلى قاعة الامتحان، وجد حينئذ أن كل من درس معه قد اجتمعوا في قاعة واحدة، أحس بفرحة عارمة جعلته ينسى ما هو مقبل عليه من جهد..
قسم كامل مكون من ثلاثة تلاميذ وست تلميذات وفدوا جميعا من مدرسة الزاوية إلى مدرسة أم البنين ليحضروا ذلك اليوم الذي جُمع له الناس.. في الطاولة الأولى يجلس التلميذ “إبراهيم” كان طويل القامة خفيف الظل يحب كرة القدم حبا جما، وما كان يميزه أيضا ذلك الشعر الكثيف المتواجد على دراع يده اليمنى، لا أدري ما سبب تواجده هناك ولكنه موجود.. ثم يقبع خلفه التلميذ “عبد الملك” وكان من أنجب التلاميذ في المدرسة كلها على اختلاف المستويات، كان يحتل دائما الرتبة الأولى.. أما عن التلميذات اللواتي كن في قاعة الامتحان مع أحمد وزميليه فهناك “بشرى” و”خديجة” و”مريم” و”حياة” و”فاطمة” و”نزهة”.
مرت أجواء الامتحان كما خطط لها أحمد ورفاقه من قبل، لقد تمكن من الإجابة عن معظم الأسئلة التي امتحن فيها، لم يبق سوى النتائج التي كان الجميع ينتظرها بلهف شديد.. تماما كما ينتظر هلال عيد الفطر، كان يرقُد في الليل ولا يرى في منامه شيئا آخر سوى الأرقام المعلقة على السبورة السوداء.. بل كان يصدر صوتا وهو غارق في نومه حتى يحسبه من بجانبه يقظا..
صارت أحلامه تنبئه مرة أنه من الناجحين، ومرة عكس ذلك.. إلى أن أذيع في الناس خبر إعلان النتائج في نفس المركزية التي اجتاز فيها الامتحان، قطع المسافة الفاصلة بين مقر سكناه والمدرسة المركزية في رمشة عين.. لم يشعر بأي شيء حينها سوى أنه شعر بنفسه وسط جمهور غفير من الناس صغارا وكبارا نساء ورجالا جاءوا من كل فج عميق، ليشهدوا ما أسفرت عنه نتائج الامتحان..
كان الكل واقفا يحملق في تلك السبورة السوداء اللون المملوءة بالأرقام المكتوبة بطبشور أبيض باهت.. أرقام كتبت مباشرة تحت عنوان بارز بلون أصفر مضمونه “أسماء الناجحين في الامتحان الموحد” كانت السبورة وراء الباب الحديدي للمدرسة المقفل بقفل ضخم وسلسلة ملتفَّة كأنها ثعبان، إذ لا يمكن لأيٍّ كان أن يلج ذلك الحصن المنيع..
كان أحمد يسمع بين الفينة والأخرى عبارة: “مبروك عليك” عبارات تلفظت بها بعض الأمهات اللاتي حضرن رفقة أبنائهن، عمت الفرحة هنا وهناك، كما عم الحزن معظم الأرجاء، لم يسلم أحمد من ذلك الحزن أيضا، لم يسلم من حزنين، أولهما كان بسبب غياب ركن من أسرته يأوي إليه وهو على حالته تلك، لم يكن بجانبه أحد، لم يكن هناك من يردد تلك العبارة التي كانت تصدع بها الأمهات، وثاني أحزانه كان سببه هو عدم وجود رقمه بين ذلك الكم الهائل من الأرقام.. كانت صدمة أشعرته حينها بخيبة أمل كبيرة، أحس أن كل شيء انتهى وأن مجهوداته ضاعت سدا..
رجع إلى البيت بخفي حنين مرة أخرى، تبدو على وجهه قسمات الكآبة واليأس، كان يتمنى البكاء في تلك اللحظة.. على الأقل كي يخفف من آلمه ويعبر عن آماله التي ذابت بين عشية وضحاها كما يذوب الملح في الماء.. ضاع كل شيء، ها هو يسير نحو مصير مجهول..
وصل إلى البيت أخيرا..، صارت الأسئلة تنهمل كالسيل العرم.. ماذا صنعت؟ كيف كانت النتيجة؟ هل نجحت؟ أسئلة كثيرة.. ظل واقفا دون حركة.. بعدها استجمع قواه ثم أخذ نفسا عميقا، وصار يتمتم بألفاظ غير مفهومة، كان جوابا قصيرا كلماته محدودة..
حاور نفسه ثم قرر البوح، وليكن ما يكن، أعطى لنفسه ثقة ما سبق أن منحها إياها من قبل، كان على يقين تام أن هناك من أفراد أسرته من سيصدقه.. على الرغم من كل شيء.. ثم قال وهو مطأطأ رأسه:
-نعم نجحت.. لقد نجحت في الامتحان..
كان الأمر عاديا بالنسبة لأفراد أسرته إذ لم يغير الخبر فيهم شيئا، لم يكن هناك تشجيع أو تنويه أو هدية تذكر.. حتى عبارة مبارك لك لم يسمعها بشكل مباشر، كانت هديته مجرد ابتسامة صفراء لم تدم طويلا، تلقاها من أخيه الأكبر.. لكن سرعان ما تغير الخطاب من الإشارة إلى العبارة فقال عزيز:
“الأغنام يا أحمد قد ضاقت ضرعا، ولم تعد تحب أن تنتظر أكثر، إنها في شوق لأمها الغابة”
لم ينطق في تلك اللحظة ببنت شفة، أكل ما يمكنه أن يسد رمق جوعه، ثم توجه صوب الغابة مباشرة منذ أذان العصر إلى أن حل ظلام الليل، كانت هذه الفترة أطول زمن عاشه في حياته، لقد كبر قبل أوانه بفعل التفكير في ذلك الوضع المشؤوم الذي شغل فكره طيلة فصل الصيف، إلى أن جاء يوم موعود آخر..
في أول يوم من أيام التسجيل في مستوى الإعدادي تضاعف فيه حزنه كما تضاعفت فيه دقات قلبه.. لكنه-وبكل ثقة-قرر الذهاب رفقة أخيه عزيز صوب إعدادية “العيون” المحادية لبلدة “أولاد يحي” وهي من أكبر بلدان الجماعة القروية، وكانت تقطن بها مربيته “فطومة” بعدما تزوجت وتركته مرغمة..
دخل المؤسسة التي لم يمر على تأسيسها سوى عام واحد.. كان أول شخص يلتقي به “عبد الله” الحارس الليلي للمؤسسة.. الذي كُلِّف باستقبال التلاميذ الجدد.. بادر الأخ الأكبر بالسؤال بعد إلقاء التحية والسلام..
-من فضلك هل يوجد اسم هذا الغلام في لوائح التسجيل عندكم..؟
سأل المساعد عن اسمه وكنيته ومكان ولادته، نظر في الأوراق التي بحوزته، وكان أحمد يقف غير بعيد يترقب.. لقد كان قلبه في هذه اللحظة منفطرا وعلى وشك التوقف.. سرعان ما سمع جواب المساعد وهو يقول-بعد اطلاعه على لوائح الوافدين الجدد من التلاميذ– نعم اسمه موجود ورقمه الترتيبي في الفصل سبعة..
سمع الخبر ثم أسرع الخطى.. ما أعظمها من لحظة.. لقد عاد ماء وجهه مرة أخرى.. غمرته فرحة عارمة.. نظر نظرة في السماء ثم همس بقول.. وبعدها دخل إلى مكتب الأستاذ المسؤول عن إجراءات التسجيل بالمؤسسة.. قدم له وثائقه الشخصية.. ثم غادر المؤسسة والفرحة والبسمة لا تفارق محياه في انتظار الانطلاقة الفعلية لموسم دراسي جديد..
إبراهيم الطاهري- بني ملال
اترك تعليقا