عبد اللطيف ضمير يكتب: العجوز والبحر

17 يوليو 2020

يعتبر فلم العجوز والبحر، من الأفلام التي تناولت حياة الإنسان في صراعه مع الظروف الصعبة من أجل تحقيق أحلامه التي يؤمن بها، هذا الفلم الذي اقتبس من رواية لنفس العنوان، يعد أيقونة حقيقية سواء من حيث التصوير أو طريقة سرد الأحداث، وكذا توظيف الشخصيات، وهو من الأفلام التي كانت مفضلة لذى العديد من الشخصيات البارزة في العالم العربي و الغربي، كصدام حسين رئيس العراق السابق، الذي شاهده أكثر من عشر مرات، بعدما حقق إيرادات فاقت كل التوقعات بمختلف دور العرض التي عرض فيها بمختلف دول العالم.

هنا سنتوقف بالتحليل عند مضمون الفلم، في علاقته بالواقع والصورة التي رسمها للمشاهد بشكل مميز لا يقل عن الواقع، حتى أن أغلب مشاهديه عاشوا الأحداث نفسها لكن في ميادين مختلفة، هذا الفلم الذي تدور حكايته في قرية صغيرة فقيرة جانب البحر الكوبي على تخوم العاصمة هافانا، يحكي قصة حلم طويل لسيد عجوز مع البحر، يسكن هذه القرية ويعتبر من أبرز ساكنيها، سواء كصياد أو مبارز أيادي ومشجع لرياضة البيزبول الأمريكية، الأمر الذي جعل منه أيقونة الفلم وشخصيته الأولى الأكثر تأثيرا في المتلقي، تدور حوله كل الشخصيات والأحداث، هذا العجوز الذي راوده حلم صيد سمكة قرش كبيرة منذ أن كان طفلا صغيرا، تلميذا لدى استاذ له في الصيد، توفيت زوجته فدخل في حزن شديد، رغم كل محاولات ابنته الوحيدة التي تعيش وسط العاصمة هافانا في أن يسكن معها ويغير من حياته التقليدية في هذه القرية الفقيرة، لكنه رفض وأصر على تحقيق حله بمساعدة أحد الأطفال ويدعى مانولو.

حلم العجوز الذي ركب البحر منذ الصغر، عاش حياته كلها في القرية الفقيرة، حتى بعد وفاة زوجته، وزواج ابنته التي تمثل التيار المعاصر، الحالم بغد أفضل، تيار العصرنة والتجديد في الحياة والأفكار، فيما يمثل العجوز التيار المحافظ على تقاليده وأعرافه، المتعلقة بحياته اليومية، وعمله في البحر، فالعجوز لم يرضخ لماطلب ابنته في مغادرة هذا المكان، بسيط الثياب والأكل وحتى السكن، محب لحياته التقليدية، مؤمن بحلم الحصول على سمكة قرش كبيرة وبيعها من أجل أن يغير من حياته ولا يكون عالة على غيره، لكن حلمه هذا كان يثير سخرية كبيرة بين سكان القرية، لقد حاول أكثر من 88 مرة لكنه فشل في تحقيق حلمه، ومع ذلك يصر على تحقيقه ولايكثرت لما يقوله سكان القرية، فكان يخوض في البحر لأيام ويعود بخفي حنين، يجلس في المقهى يشرب النبيذ والشراب حتى الثمالة ثم ينام ويستيقظ باكرا من أجل الحلم الذي طارده منذ الصغر.
ومن خلال هذه المشاهد يتضح مدى القوة والعزيمة التي يتمتع بها هذا العجوز رغم كثرة الخيبات، فالكاتب يحاول من خلال هذه الصور تغيير الأفكار التي تسيطر على كل شخص فشل في تحقيق حلمه بعد سنوات من التضحية، الحياة ليست سهلة كما يتوقعها البعض، فهي مجازفة وتضحية مرات ومرات حتى الوصول إلى الهدف المنشود، وكذلك فعل العجوز طيلة مشاهد الفلم، لم يستسلم بالرغم من كل الظروف الصعبة التي كانت تحيط به من كل جانب، رغم نظرة أهل القرية وسخريتهم، فالإنسان عليه شق طريقه نحو الحلم دون الوقوع في شراك الآخرين، أعداء النجاح، لأن طريق الحلم لن تكون مفروشة بالورود.
هذه القرية الساحلية الفقيرة الجميلة كانت مرتعا للسياح، يأتي إليها الزوار من كل أنحاء العالم، وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، البلد القريب من كوبا، سيأتي إليها مواطن أمريكي رفقة زوجته ويغرم بها، وبالعجوز ثم يقرر كتابة رواية عنه وعن أحلامه وحياته وكل ما يتعلق به، وهي التي حولت الى هذا الفلم، باع سيارته واقنع زوجته بالبقاء معه حتى يحقق العجوز حلمه، هذا الأمريكي هو الشخص الذي يؤمن بحلمك منذ البداية بالرغم من كل شيء، وهنا جسد على شكل شخص غريب في الفلم وذلك لكون الغرباء أكثر الناس إيمانا بالأحلام من أهل البلد، ثم لسبب آخر كون إن الأمريكي رمز التحضر والعلم والمعرفة، فهو لا يؤمن بالمستحيل أبدا، فيما طرح آخر قد يذهب إلى تلك التراتبية التي ينظر بها الأمريكي إلى الآخر، يطارد أفكاره من أجل الاستمتاع به وبتجربته، سواء فشل أو تمكن من النجاح، ففي كلتا الحالتين سيكون الرجل الأمريكي مسفيدا من نجاح الشخصية أو فشلها، وهذه الأشياء هي التي كانت وراء بقاء الكاتب الأمريكي بالجزيرة، وإيمانه بحلم العجوز.
إذا كان الأمريكي جسد دور الغريب المؤمن بحلم العجوز، فإن العجوز سيكون عرضة للسخرية من طرف أهل القرية، بالرغم من السخاء الذي كان يتميز به هذا الصياد، والإحترام الذي كان يكنه لهم، فالأسماء الأخرى التي كان يصيدها، غير التي يعتاش منها، يعطيها لهم مجانا، ومع ذلك لم تشفع له هذه الأشياء، في أن تؤمن به القرية كلها في تحقيق حلمه، ففي طريق الإنسان إلى تحقيق الحلم سيجد أن أقرب الناس إليه، أشدهم حرصا على فشله، لكن العجوز ظهر في جلباب من الرزانة في التعامل مع هذه الأمور لما يمتلكه من الثقافة التي يمتاز بها، حيث كان حكيما في تعامله معهم ومع سخريتهم، فلم يرد عليهم ولم يتسابق إلى تفسير فشله أو سر رغبته في تحقيق هذا الحلم، لقد ظل غامضا، كاتما سره في نفسه حتى التحقق، وكذلك على الإنسان عدم الجهر بمخططاته وأحلامه حتى لا يكون عرضة للسخرية في حال فشل فيها.
وفي يوم من الأيام سيحقق العجوز حلمه، حينما تمكن من اصطياد سمكة القرش الكبير بعد معركة استمرت ليلة كاملة وأطراف من النهار، بقاربه التقليدي واداوته البسيطة، تعذب كثيرا من أجل ذلك عاش الرعب والخوف، ألم الارتطام بخشب قاربه وحرارة الجو، أمواج البحر ومعركة القرش، لكن خبرته في الصيد جعلته يحقق الحلم ويربط القرش بالقارب بعد ضربة قوية بالرمح، الحلم الذي نازع حياة البحر من أجله تحقق بعد محاولات عديدة، بعد سنوات، كالشخص الذي يسعى إلى الحصول على سيارة أو منزل، أو وظيفة..،وقد يطاردها لأعوام طويلة دون ملل أو كلل، فالمشهد الذي أنهى به الصياد حياة السمكة يختزل حياة الإنسان العامرة بالطموح والصراعات، لكنها عادة ما تكون تافهة مقارنة بأشياء مرت بحياته اليومية وكانت ستغير منه إلى الأفضل، لكن الحلم وقف حاجزا أمام ذلك، فكل طموح يخفي وراءه طموحات سهلة التحقق في الواقع.
تحقق الحلم الذي طارده منذ الصغر وخسر من أجله الكثير وضاعت عليه أشياء عديدة، فرح فرحا كبيرا وراح يعد الأرباح التي سيجنيها من وراء بيعه لهذا القرش الكبير، لكنه اكتشف ان هذا الحلم تافه وبسيط بالرغم من هذه الهالة التي عاشها من أجله وأنه لا يكفيه لعيش ما تبقى من حياته، فضيع بذلك حياته وحياة هذه السمكة، وهكذا فالشخص الذي يطارد حلما، قد يخسر الكثير من أجله دون الوصول إليه، ومعه حياة الناس الآخرين، شعر الصياد العجوز بالخيبة، كما يشعر كل شخص وصل إلى هدف معين بعد سنوات من التضحية، شعر أيضا بظلم القرش لكنه توصل إلى الاستنتاج التالي: “في الحياة خلق القرش ليصطاد ويأكل وخلق الإنسان ليصطاده”، بدأت هواجس نفسه وحوار الداخلي الذي يميز كل شخص منا، ذلك الصراع النفسي المرير الذي يعيشه الإنسان بعد كل نجاح أو فشل.

تابع العجوز طريق العودة إلى القرية الصغيرة، بعد أيام عديدة ظن سكانها أنه قد هلك ومات، ولكن الكاتب الأمريكي والطفل مانولو ظلا يؤمنان بعودته فهو صياد عظيم، وأثناء العودة بدأت معركة أخرى من نوع خاص، سيدخل العجوز في عراك مع أسراب القروش والرياح وظروف البحر المتقلبة، سيفقد كل ما يملك من ادواة وجهد ويقرر أن يترك السمكة لحال سبيلها تأكلها الأسماء الأخرى، سيترك الحلم الذي قاتل من أجله وضحى بالكثير ليناله، نظرا للظروف المحيطة به، فكل الظروف تهددته وأرغمته على الرضوخ للفشل، وهكذا تكون أغلب الأحلام التي تتحقق، في النهاية قد يتركها الإنسان لأتفه الأسباب، وقد يكون الآخر هو الدافع لتركها، فبعض الناس هدفهم تدمير الأحلام، ووضع العصا في العجلة، لا لسبب إلا لكنهم فاشلين.
عند وصول العجوز إلى الشاطىء، وقف جميع سكان القرية ينتظرون فرحا وصول السمكة أوبما تحصل عليه من أسماك، لكنه خيب ظنهم فراحوا حزينين وغادرو المكان، ولم يبق منهم إلا الطفل مانولو، الذي أحس بدوره بالغضب وظل ينتظر شيء آخر غير فكرة الفشل، كان ينتظر القرش بفارغ الصبر لأنه لم يعد يتحمل سخرية أهل القرية من أستاذه، لم يصدق كلام العجوز، ولا حتى القارب الفارغ، وظل يبحث عن السمكة، لكنه تقبله الهزيمة بعدها وأخد على عاتقه حلم الجوز وبداية رحلة جديدة من أجل مواصلة الحلم، بينما تفرغ العجوز لمشاهدة مباريات البيزبول وعراك الأيدي الذي كان بطلا فيها، ففي الحياة المناصرون يغضبون وقت الفشل لأنهم هم الذين آمنوا بسيدهم ويعلمون الخيبات التي تصيبه وتصيبهم، حزن الفتى الصغير ومعه الكاتب الأمريكي، لأنهما الأكثر إيمانا بالعجوز، بينما سكان القرية لم يعر منهم أي شخص الإهتمام بالعجوز، وعادوا إلى حياتهم بعد مشهد الفشل، بعض الناس ينتظرون الفشل فقط وقد يكون دعمهم في النهاية لغاية في نفس يعقوب، لا من أجل التصفيق للنجاح.
خلاصة الفلم : الفلم هو حياتنا اليومية التي نعيشها، نحلم بتحقيق الأشياء والأحلام، ثم نضحي من أجلها بما نملك وما لا نملك، وما إن نصل إليها حتى نجدها تافهة وقد ضيعنا سنوات عديدة في سبيل تحقيقها وضاعت عنا أشياء لربما أفضل منها.
في الطريق إلى تحقيق الحلم ستجد الكثير من الناس يسخرون منك ومن أحلامك لكن حذاري أن تفشل لمجرد سماعك لضحكاتهم وكلامهم، فعندما تحقق الحلم ستجد قلة قليلة هم من يؤمنون بك ويدعمونك، فالجميع يريدونك ناجحا فقط، لا ينظرون إلى الويلات التي مرت بك، بينما أغلب الناس ينتظرون فشلك فقط.

عبد اللطيف ضمير – مدينة الجديدة

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :