جلست بمحاذاة عجوز مسن مقوس الضهر، يرتدي جلباب ممزق من تحت إبطيه، شعره مجعد و طويل أكاد أجزم بأنه لم يحلقه لشهرين أو أكثر، لحيته تخفي ملامح وجهه المنهك المليء بالتجاعيد التي تشهد على كبر سنه ، كنت في محطة القطار أتفرس تقاسيم وجهه الذابل وعينينه الغائرتان وجبهته القصيرة التي تنزل منها قطرات عرق وتنساب فوق حاجبيه إلى أن تختفي ذاخل أسوار تلك اللحية الكثيفة. لاحظت أنه يتابع بطرف عينيه طفلا صغيرا يلعب بأرنب في حضن والديه ويتأملهم بشيء من الدقة وبالتفصيل كأنه يحفظ داخل قوقعة عقله جل ما يقوم به ذالك الطفل، ولأنني شخص يعشق الغرباء وشغوف بمعرفة قصصهم و إلى أي مدى كانت الحياة عادلة ومنصفة لهم ولأحلامهم، وجوه الغرباء العابرين تحكي قصص الحب و الفراق،الموت على قيد الحياة، الخيانة، اليأس، السعادة، الحزن، النجاح والفشل على حد سواء، ولطالما كنت محبا لمعرفة المزيد من التفاصيل حول الغرباء والمآسي التي تسكن خلف ملامحهم، أردت الإقتراب أكثر ومعرفة تفاصيل هذا الوجه الحزين و لماذا يحسد هذه العائلة المكونة من ثلاثة أفراد، ولما تعلو وجهه علامات الغضب وهو يسرق النظر إليهم لماذا يحسدهم على سعادتهم وهم لا يعرفونه لماذا يكن لهم هذا الكره العميق؟ وهذا بالضبط ما جعلني أسأل نفسي هل السعادة جريمة بشعة إلى هذا الحد؟
أخدت سيجارة من جيبي وقداحة و أقتربت أكثر من ذالك العجوز وسألته :
سيدي، هل تدخن؟
قال :لا
إبتسمت برضى وجلست بجانبه فالسيجارة لم تكن سوى عذر زائف لأكون رفيقا له في ما تبقى له في المحطة.
بعد مرور تقريبا ساعة من الصمت، تلفت ناحيته وسألته :
سيدي، هل السعادة جريمة؟ لقد رأيت كيف تنظر إليهم فأشرت بيدي إلى تلك العائلة!
أجابني ب نعم، و تابع….إنها مشيئة القدير أن يسعد من يشاء ويحزن من يشاء لا سلطة لنا على مايريده القدير، لكنني ورغم ما قلته فأنا لست متأكدا من كلامي ،وبالتأكيد أود نصيبي من السعادة أين هو ؟ أو لربما فالقدير لا يحبني كنت أقضي الكثير من الوقت أدعي بدل أن أقوم وأعمل بدراعي كنت أنتظر القدير ليعمل مكاني ورغم ذلك لم يحقق لي أحلامي ولا دعائي، لا بأس بذالك فأنا لا أكرهه البثة إني أحب القدير وأكن له حبا عظيما لكنه لا يحقق لي ما أريد وهذه هي المشكلة الحقيقية، لطالما تسألت أين نصيبي من السعادة والحب والحنان؟
أخرج أصابعه الطويله والرقيقة من جيب جلبابه وقال :
هل لي بسيجارة يا سيدي! إنني أذخن كثيرا وكنت على وشك الإقلاع عنه لولا ظهورك المفاجئ و نبش المعاناة التي أكابدها مند أن فتحت عيني على هذه الأرض الملعونة!
أمدتته بالسيجارة ووضعها بين شفتيه وتابع…
أكاد أجزم بحقيقة أنني أعمل أكثر من الحمار نفسه مند أن ولدت، أتعرف بأننا ولدنا أنا وكلب جارتنا في نفس اليوم مضحك أليس كذالك، وأقول لك بأنه يحتفل بعيد ميلاده وأنا لا!
كل يوم يستحم ويأكل فطوره في وقته حتى أنه يتلقى معاملة أحلم بها، أتصدق أنني تمنيت لو تبادلنا الأدوار ذالك اليوم وولدت في مكانه!
عملت في صغري في أقذر الأمكان مقابل ثمن رمزي تافه لا يشبع جوعي فما بالك بعائلة تتكون من عشرة أفراد إن الأمر أشبه بنكتة أعلم لم ألبس يوما جيدا ولم أكل أو أنام جيدا، وزد عليها زيف وغباء هذا العالم والمجتمع بالضبط بأي عقلية يواجه الأمور، يواجهون الحياة و صعوبتها بعقول الحشرات التي لا ترى بالعين المجردة، بل وإنني أعتذر لأنني لا أعرف عن حياة تلك الحشرات شيء، كيف يجرء أبي أن يلد هذا العدد الكبير منا إلى هذا العالم وهو لم يكن يملك المال الكافي ليعيننا ولا منصف مشرف ليقاتل بشرف الحياة، لم أقل يوما إنه خطأ القدير بل خطأ البشرية فقط وقراراتهم المبنية على المصالح الشخصية، إنني أحسد وأبغض هذه الحياة أولا تم هذه العائلة السعيدة جدا ،لأنني كنت أحلم بعائلة مثلها يوما وهو حق لم أحققه ولن أفعل لأن القطار تجاوزني وظللت أرمقه من بعيد أستهزء من الركاب لأنهم ركاب زائفين وسينزلون في أقرب محطة أما من يكملون فهم قلة قليلة…
إنني أشعر بألم ومرارة الفقدان، فقدان حياتي، بالله عليك كيف يولد الإنسان إن لم يكن سيعيش كما يتمنى حياته، إنه لأمر محزن بجد أن تكون مجرد شيء لا يهتم لحاله أحد.
ستون سنة أو أكثر ولم أدق طعم الحياة يوما لكنها كانت سخية معي في ما يتعلق بالدروس تعلمت الكثير بلا جدوى…
أخدت جريدة” الوطن ” من بين يديه و رأيت الأسى يطل من عينيه، قلت له ما رأيك بالوطن إبتسم بسخط وقال :
خد سيجارتك لقد أقلعت أتتذكر!
عبد اللطيف والرامي – مدينة بني ملال
اترك تعليقا