محمود محمد فهمى يكتب: أبعد الأقربين

26 يونيو 2020

لقطة الصراع الثنائي فى كل المشاهد السينمائية أصبحت عقيمة الإنتقاد فى مختلف أشكالها، ربما قد نال منها الزمان ما ناله من سواها، فدائماً صاحب أبعد نظرة ثاقبة لتلك اللقطة سيظل على بُعد خطوة واحدة على أقل تقدير من المشهد الكامل الحقيقي، فلتتوقف عن الحديث وتضع أقلامك جانباً وتُنحى عاطفة الانتقاد المُفرط التى أصبحت تسيطر على الجانب البشري بصورة سقيمة، وتكتفي بالمشاهدة تلك المرة،  فإذا فرغت فلتجيب عن سؤال اليوم وكل يوم، من صاحب النظرة الأبعد فى كل مشاهد الصراع التى نراها فى وقتنا هذا؟! ليس بالتأكيد أحد طرفي الصراع، وليس بالتأكيد الحشد الذي أتى على صوت تبادل الاتهامات بدافع فضول الإنسان الساذج، وليس أيضاً من يشاهد الصراع وحشده الغفير من زاوية أبعد، حتى وإن ظن هو أنه يرى ما لا يراه سواه، فهو أولاً وأخيراً أحد الدُمى المتحركة التى يمكن الاستغناء عنها، نحن نتحدث هنا ليس فقط عن الأهم أو الأكثر سيطرة أو حتى صاحب النفوذ الأعظم، نحن نتحدث هنا عن (مالك التلفاز)، عندما تشاهد أياً ما كان وتعتقد أنك صاحب الاختيار الأول لذلك الإقتراح، فلتعيد التفكير مرتين، أو أجعلها ثلاثة أو أربعة، فأنا أُحدثك هنا عن مالك لقطة الاشتعال ومفتعلها وخامدها، فهو صاحب المشكلة والحل، أنت فقط تلعب خارج أرضك، والخصم هو صاحب الأرض والجمهور والحكم إذا أردنا الدقة، أعتقد أن نتيجة تلك المباراة معلومة مسبقاً.

لن تُخفف كل كلمات التفائل والأمل من وطئة الحقيقة القاسية بكوننا نعيش فى اسوء عصور الأرض على الاطلاق، منطق الزمان فى التعامل مع الأشياء كلها قد فاق حد الاستيعاب، من كان يظن أن القيم الإنسانية السامية التى كنا نتغنى بها وأنها سبب كوننا “بشر” سيأتى عليها يوم من الأيام لتذهب مع أدراج الرياح، كالمسافر الذي أطال الغياب فأفقد كل من انتظره أمل اللقاء، من كان يعتقد أنه سيأتى اليوم الذي تُحدث فيه أحدهم عن الأمانة والشرف والمصداقية ليجيبك بابتسامة الساخر قائلاً: إنها أشياء قد عفى عليها الزمان، بهذه السهولة!! وكأننا نتحدث عن عملة بالية توقف شعبها عن استخدامها منذ قديم الأزل واستبدلها بأخرى تمتلك مرونة جيدة فى أسواق التعاملات التجارية.

لا أحب التحدث عن اليأس حتى وإن كان السلعة الوحيدة المتاحة، لا أحب التحدث عن الشر حتى وإن كان يجاورنى ويُجاوِر كل من له مُجاوَر، أنا ذلك الحالم الذي يعشق الخيال عن الحقيقة، ذلك الرجل الذي يعشق أسطورة مضحكة تتحدث عن العودة بالزمان إلى الماضي وتغيير سير الأحداث إلى الأفضل دائماً، ثم وجد ذلك الرجل أن حتى تلك العودة لن تكون كافية لتغيير دفة الأمور، فعقيدة البشر ستفسد عاجلاً أم آجلاً، ربما سأطمح إذاً  أن أكون “صاحب التلفاز” فى يوم من الأيام، أن أكون صاحب المقدرة ليس فقط على تغيير الزمان ولكن سأستطيع تغيير العالم الذي اعيشه برمته، أنا أحتاج إلى عالم يمكنك أن تُقنع فيه أحدهم بأن الخير ليس مقتصراً عليه وحده، تباً لتلك العقلية التى اقتصرت صفة الخير فى بقاء الأشخاص ونزعتها منهم عند رحيلهم، أما آن لك أن تفهم بأن ذلك الذي تظن أنه كان شراً لك لأنه قد غادرك ( وكأنك أحد المنزّهين عن اقتراب الشرور) لذلك تحسبه شراً لك ، كان خيراً لآخر، فكل العلاقات على ذلك المنوال، هو ذلك الحرف الأخير الناقص من الكلمة، لن يتمم معناها سواه، فإذا أتى آخر اختلف المعنى جملةً وتفصيلاً، هل الأمر بتلك الصعوبة حتى نعجز عن استيعابه حتى الآن؟!

حتى أنا مثلى مثل سائر البشر، أُتقن الوقوع فى الأخطاء، بل أن المُلاحظ أننى أُتقن تزييف مشاعرى من خلال كلماتى، فى حقيقة الأمر لم أصرف النظر فى أسطورتى المضحكة بالعودة إلى الماضي لأن التغيير لن يفيد، رغم كونها حقيقة ولكنها ليست المؤثر الحقيقي، أتدرى أنه حتى بعد العودة بالزمان لتصحيح الأخطاء التى أعلم يقيناً بتأثيرها مستقبلاً ، سأظل دائماً أحب اقتراف بعض الأخطاء التى أودت بى إلى لقاء أحدهم، سأعود كى أكتسب بعض الدقائق الإضافية والتى فقدتها سابقاً ثم أستمتع باستنفاذها الواحدة تلو الأخرى، فأنا أعلم أنك ستظهر حين تنفذ تلك الدقائق، سأعود ألف مرة مع نية تغيير الطريق الذي سلكته مسبقاً ، ثم أسلك الطريق الخطأ مرة أخرى ، فأنا أعلم أنك تقف عند نهايته، ، سأعود ألف مرة كل لا أخطئ مكان لقاء البعض، ثم اتجاهل الجميع وأخطئ مرة أخرى ولكن طواعيةً تلك المرة، فالمكان الخاطئ قد شهد أفضل لقاء حظيت به على الإطلاق، من المثير للسخرية بالنسبة لى أن تعتقد أننى احظى باختيار التخلى أو الفراق تحت أى احتمالات، فأنت تعلم أنك ستظل المُبتغى الوحيد لى فى كل الأوقات، أنت بطل الرواية الأول والأخير والذي سأسعد بلقاء الموت على صفحات الكتاب إن كان ذلك سيجعله يحظى بالمشهد الختامى السعيد، أنت صاحب الكلمة وإن لم تكن الراوى، أنت صاحب القصة وإن لم تدمن الظهور، أنت الصباح وإن لم ترى ذلك، أيعمى العالمون عن الضياء؟! فبعض الكلمات قد خُلقت لبعض الأشخاص فأصبحت حِكراً لهم، وفوق المدى كانت الشمس… ترقب عينيك حتى تعود.

محمود محمد فهمى – مصر

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :