لم تكن علاقة نابليون بونابرت القائد العسكري الفرنسي ذو الأصول الإيطالية، جيدة مع مثقفي عصره، ونخبة الكتاب والشعراء الفرنسيين الذين طبعوا الساحة الأوروبية بأعمالهم، وكان كغيره من الحكام والساسة بالرغم من القوة التي وصل إليها، والنفوذ الكبير الذي كان يتوفر عليه.
عمل نابليون طوال حياته على طمس هوية فئة المثقفين من المجتمع، فهو لا يحبذ تواجدها في مجتمع يحاول الخروج إلى العالمية من براثين الكنيسة والمعتقدات الدينية التي رسخت لدى الفرنسيين كغيرهم من الأوروبين، مبدأ الطاعة المبالغ فيها، دون أدنى محاولة لتبرير لهذا الخضوع.
وبالرغم من كل الضغوط والمحاولات، إلا أن نابليون رغم قوته والسلطات التي كان يملكها، إلا أنه لم يستطع القضاء على هذه الشريحة التي أخذت في التمدد والتغلل، وأضحى لها أتباع كثر من مختلف طبقات المجتمع في باريس، وتشكلت قاعدتها من الطبقة الوسطى المثقفة، وباقي الفلاحيين والعمال فيما كان يسمى بـ”طبقة البروليتاريا”، الأمر الذي أخافه كثيرًا وأرغمه على التفكير في طريقة مثالية يتم من خلال تطويع هذه الشريحة دون القضاء عليها، لأن أمر القضاء عليهم ستولد مثقفين آخرين أكثر جرأة.
يرى نابليون بونابرت أن وجود هذه الفئة من المثقفين والمفكرين والمبدعين في المجتمع الفرنسي أمر طبيعي وضروري، لكن هذا الوجود لا يجب أن يهدد عرش الملك الفرنسي، وكيان الدولة التي تسعى بكل الأشكال إلى فرض سيطرتها على العالم، إذا وجدت هذه الطبقة فعليها أن تكون مطيعة للحاكم كطاعة الجنود لقائدهم مهما كانت الظروف ومهما اختلفت المواقف بينهم وبين الحكومة.
ولا يسمح للمثقفين بممارسة التفكير خارج سلطة الحاكم وتوجهاته، فكل عمل خارج عن إطار توجهات الدولة يعد تهديدًا لوجودها، ومن شأنه أن يعرض حياة صاحبه إلى عواقب وخيمة، وبذلك ساد نوع من الكتاب والمفكرين وعدد كبير من الشعراء، كانت مناصرتهم لنابليون لوحده دون التفكير في ماهية الأشياء ومستقبل الشعب الفرنسي، لقد مارس عليهم إعادة صياغة خطاباته بالطريقة التي تخدمه والتي يريدها، ويريد أن تسود بين الفرنسيين خدمة لمشروعه السياسي والحملات التي كان يقوم بها على حساب مقدرات الإنسان الفرنسي.
لقد أقر نابليون بونابرت أن هذه الفئة قوية بما فيه الكفاية لصنع مجتمع فرنسي آخر لا يرغب في وجوده، لما تتمتع به من نفوذ كبير بين الفرنسيين، والوعي العميق للأحداث وطريقة تحليلها للمعطيات والظروف التي تمر بها البلاد، فهو وعي مبالغ فيه يشكل صداع الرأس لذى نابليون ورجال الدين والكنيسة، النبلاء والطبقة البرجوازية، التي كانت أكبر داعم له وأكبر مستفيد من ثروات فرنسا ومكتسبات الغزو النابليوني.
في المقابل، نجد الطبقات الاجتماعية المسحوقة التي أنهكتها الضرائب والرسوم، وصكوك الغفران وضرائب على زراعة الأراضي، في تغلل أحدث نوعًا من الخلخلة في المجتمع الفرنسي، لكنه لم تكن له آثار كبيرة كما حدث في أوروبا الشرقية إبان ثورة الشعوب ضد الاتحاد السوفيتي، لأن نابليون كان قد عمل على إنتاج نسخ متشابهة كثيرة من المثقفين والمفكرين وفقًا لرؤيته العسكرية التوسعية، وقد جعل أقلام هؤلاء الأدباء والكتاب والشعراء محصورة في بث روح الحماسة لدى الفرنسيين، وتبرير الأفعال التي يقوم بها في البلدان التي بغزوها، وقد نصب آخرين بهدف العمل على تمجيده والعمل على حماية وجوده على هرم السلطة، وكل من عارض ذلك تخلص منه وتم إبعاده، لأنه غير مرغوب به في مجتمع نابليوني حتى الموت.
يعزى إلى أن نابليون بونابرت أنه نظر إلى الكتاب والشعراء، وقال في وصف الشاعر، في مقتطف من كتاب “الأديب والسلطة”: “إن الشاعر رجل موهوب دون ريب، تعلم أن ينظم الشعر كما يقوم الجندي بتمريناته، وعليه أن يكون مطيعًا للأوامر كما يطيع الجندي أوامر رؤسائه، على أن نابليون لم يتوقع من شعراء زمانه أن يطيعوا الأوامر دائمًا، لقد توقع منهم ذلك فقط في بعض الأعمال الهامة، كأن يساعدونه على بث روح الحماسة في الفرنسيين والعمل على تأمين الوطن”.
يرى نابليون بونابرت المثقف موهوبًا للغاية يستطيع أن يسحر عقول الناس بكلماته، وله قدرة خارقة على جذب الناس إليه وتوجيه تفكيرهم، إنه يخلق نوع من الوعي الثوري في عقول الطبقات التي يتبنى الدفاع عنها؛ وهي الطبقات التي تشكل قاعدة المجتمع وغالبيته، ما قد يهدد عرش حكمه.
واعتقد نابليون أن أي مواجهة مباشرة مع فئة المثقفين ستجر على الحاكم الفرنسي ويلات الشعب، وتؤجج غضبهم وتخرجهم في مظاهرات حاشدة، فقد عظم دور الكتاب والشعراء في المجتمع، وأصبح من الصعب إقناع الناس بتفاهة أفكارهم وتوجهاتهم الفكرية، فكانت تعظم مكانتهم بين الناس كلما تم نفي أحدهم أو قتله.
وأمّن نابليون إزاء كل الظروف السابقة، مسافة الأمان بينه وبين المثقفين، وجعل لهم متسع من الحرية، ليس بالكبير لإسكات أصوات الشعب الفرنسي ظاهريًا، لكنه عمل في الخفاء وبكل الطرق على إخضاعهم والتماس طاعتهم، لقد أرادهم جنودًا المطيعين له، يحركم كالدمى وفقًا لإرادته ورغباته، لكن الكثيرين منهم لم ترضخ له وظلت وفيّة لروح الشعب الفرنسي، تناصر قضاياه إلى أن تم التخلص من نابليون وأمثاله، وتم صناعة دولة فرنسية قوية أساسها العلم والصناعة؛ دولة ديمقراطية لها نفوذ كبيرة في العالم.
عبد اللطيف ضمير – مدينة الجديدة
اترك تعليقا