(سكون مطبق)
………………………….
خيوط الضوء الرفيعة تنسكب على الأرضية الخشبية، مكتب أسود، أوراق مبعثرة، أقلام ملقاة هنا وهناك وهنالك. أبدد بها السيل المنهمر للحظات تستبد بذاكرتي؛ للقلم عندي وقع السلاح الفتاك الذي يقيني من ترانيم الوجع، في محرابه أتحصن؛ وبمداده أحول الأجواء الخانقة إلى تحفة يشع منها الأمل للعيش في صدق تام. عيناي ساهمتان، شاخصتان، مشدوهتان إلى قلادة نحث عليه اسم سارة بحرفية خارقة؛ مركونة في الرف الأعلى من المكتب.
اليوم، وبحكم العزلة المفروضة أجدني غير قادر على الهروب مرة أخرى، الأرق يعذبني، أخذت يداي ترتجفان غرقت بين أحرف اسمك، أحسست باشتياق غامر للكتابة عنك وإليك.
…………………
عزيزتي سارة:
لقد أتممت اليوم عقدي الثاني، أجلس في مكتبي محاطا بسيل من الأسئلة الجارفة، استسلمت أمامها طوعا، على هذه الأرض التي أرسلني إليها الله أشعر بأني بلا فائدة أو هدف. ما فائدة الحرية إن لم أستطيع بلوغ كمالها يوما؟ أعيش بين خيبة وخيبة، ضاق بي حاضري فعدت إلى ماضي أفتش عن أسباب القبول. أتحسس أخبارك، حاولت البحث عن المعنى المفقود، تحمست لتبين أسرار الإنسانية والوجود.
بتبتل وصدق تامين أخذ يسود الصفحات ليبعث بها إلى صديقته سارة التي كانت سنده الوحيد في هذه الحياة، بعدما توقف عن العمل أو فقد وضعيته الاعتبارية إن صح القول في مجتمع الفوضى والتفاخر، حدث خلاف بينهما فتركته وحيدا ورحلت.
همس من أعماقه يقول: لقد رفضتك؟
أحلامك تبعثرت اندثرت تلاشت، أصبحت كمهرج، عليك بالنسيان، انس ذكراها كفاك نواحا على ماضيك، إن كنت تعتقد أنها سبب وجودك فأنت فعلا لست موجودا، تشجع انساها فالحياة لا تقبل الضعفاء. انقض على الورقة بعصبية يمزقها إلى أشلاء في أنفة مصطنعة.
عاد إلى التواري مجددا يختلق الأعذار لتبرير هروبه الدائم من المواجهة، يتساءل مستفهما أأنا المخطئ أم هي الأخرى كالعامة أصيبت بعدوى التفاخر والتعالي؟ شعر حينها بالعبث واللاجدوى، بات يعيش عزلة قاتلة، تشابهت عليه الأيام، فقدت الأشياء بريقها، عمت الفوضى، صار البخس والثمين سيان، في زمن التشيؤ والتسليع، كل هذا يمكن أن أشاهده لا فقط في كتب الفلسفة وإنما كما كامو فقط من النافذة، من نافذتي التي لا يفصلها مع مكتبي إلا كنبة متوسطة أستلقي عليها أحيانا عندما يستغرقني وقتي أطالع وأكتب.
تجلى الهدوء من حولي متدليا بوقار في سائر أرجاء المكتب، وأنا أفكر في سارة على أنغام الحسرة، سمعت طرقا على النافذة، تكسر تأملي، من؟ لا مجيب، نهضت لأرى رجلا في الأربعين من عمره، ذو شعر كثيف أشعت، يرتدي ملابس فضفاضة غير متسقة، يظهر عليه التشرد، خلته سيطلب مني طعاما، سألته نعم؟ إذا به ينزاح إلى الجانب ليطلب مني ولاعة، مضيفا أريد إشعال الفرن، ربما استعمل الفرن حيلة حتى ينال عطفي، ربما هو الأخر رُفض طلبه من شخص آخر، فتفنن قليلا لألبي طلبه، بسرعة أحضرتها، كانت بجانبي بعفوية شديدة أعرتها له قبل أن يمسك بها،
توجهت إليه: لدي واحدة، أردفت؛ لو سمحت أريد استعادتها،
الأربعيني: تمتم ورحل.
عدت إلى الكنبة جلست أستمتع بنغمات المطر الذي أخذ يتساقط فجأة بانقطاع غير منتظم منذ البارحة، كأنما زارتنا غيمة كئيبة تبكي مطرا، أرنو بعيني من جانب النافذة يرمقني سواد حالك، سماء ملبدة بالغيوم، أحاول تبديد ثعب التفكير في سارة صاحبة الوجه الملائكي الذي تتلاعب فيه خصلات شعرها الناعم المنساب، رعشت راحتها وهي تضم يدي لا زالت تقطع أوصالي.
في انتظار استعادة الولاعة، فكر لو أنه أشعل سيجارة قبل أن يمده بها؛ تأفف؛ مقت الانتظار أحس وكأنه يعد خطى الأربعيني مخترقا الفراغ الجانبي للمنزل، وهو يتحسس الولاعة كأنه عثر على كنز ثمين، وكيف لا يكون ثمينا، أستطيع أن أرى الانتشاء ظاهرا على محياه بعدما نجح في الحصول على ما أراد، في قرارة نفسه يقول: خدعته. أما أنا فأراه عليلا مريضا كالعامة، تلوث من الحشد الذي يختلط به، ولأول مرة من بدء الوباء الذي أسمع به وأعاينه على التلفاز وعلى الراديو وفي كل مكان، أجد فيه إشارة بليغة بضرورة اتقاء شر الشوارع والحشود تفاديا للعدوى الروحية لا العضوية كما يسوقون.
تأكد حينها أنه كان صادقا بشكل مثالي؛ فهو لم يكذب حينما قال بأنه لا يملك إلا واحدة، ومع ذلك فقد وثق به وأعطاه ما أراد، بادر إلى ذهنه حادث طريف وقع مع كانط وهو يتجول في الشارع اعترض لصين طريقه، طلبوا منه أن يعطيهم ما بحوزته من نقود، لم يتوانى، أعطاهم ما بحوزته، فرحلوا، لكن المثير للاستغراب أنه بعدما عاود تحسس أحد الجيوب الداخلية وجد مبلغا آخر، هرول مسرعا مقتفيا أثرهم ليمنحهم ما وجده، فكان لذلك وقع السحر على اللصوص، تناطحت الأسئلة في أذهانهم، لكن يبقى هذا التصرف عاديا بالنسبة لكانط ما دام مؤمنا بالصدق التام.
تأكد حينها أن الرجل الأربعيني لن يعيد الولاعة.
لم يف بوعده؟ كيف يطمع في ولاعة ثمنها ثلاثة دراهم؟ رمى سيجارته بعيدا نهض يفتش أركان المنزل لينقد الموقف بالكاد أشعل الفرن برشاش ولاعة فارغة، لاحت له غصة بيكيت الذي قضى عمره متسائلا عن السبب الذي جعل عابر سبيل يطعنه؟ فما سبب عدم وفاء الأربعيني بوعده؟
نعم قد يبدو لكم الحادث عرضيا بسيطا، أو حتى تافها، إن سارة والأربعيني جزء من مرضنا الروحي، من الفوضى والخمول فقدنا معنى الالتزام فصرنا ملوثين من دون أن نعي؛ وحده المعتزل يمتلك القدرة على تأمل العالم والمجتمع من حوله، إذا كان هملغواي يرى في العزلة وطن الأرواح المتعبة. فأنا أراها مرآة مقعرة بها أستبطن دواخلي وبها أيضا أحتفل بالكائن داخلي.
احذروا الشارع فهو مكان فضيع جدا، فيه سُرق كانط، وفيه كاد يقتل بيكيت، وفيه خدعت مرتين، مرة مع سارة، لما تركتني في أول عقبة؛ وكأنه كان من المفروض أن أعيش معها حياة الرغد دون نوائب ولا فواجع، عند العقبة الأولى تخلت عني، أكاد أجزم الآن أنها ضحية، نعم ضحية المادية ضحية العالم المعولم، ضحية التفاخر، أما المرة الثانية فمع الأربعيني، الذي تحايل علي ليسرق ولاعتي الوحيدة بعدما وثقت به.
………………….
أما أنا فقد عدت لعزلتي؛ أكافئ بين الصورة والكلمة بعين تقتنص الحزن وبروح تكتب خلاجاتي، في تجانس تام وبعناق حميمي، لأتحرر من شرنقة الانصياع، ضمانا لصفاء روحي، لعلي أفهم احتياجاتي ومشاعري الحقيقية في تماهي متناهي مع ذاتي، هذا دليلي الوحيد والأبدي الذي يمكنني الوثوق به ليقودني إلى الرضا، الرضا عن نفسي أولا وأخيرا، في هذا العالم العجول الذي يفصلنا باستمرار عن ذواتنا النقية.
الحسين الرحاوي – مدينة بني ملال
اترك تعليقا