أرسلت الشمس خيوطها الذهبيّة على أديمِ الأرض، لتُعلنَ فجر يومٍ جديدٍ، في منزلٍ بسيط، يعلو صراخ وأصوات مرتفعة وسط بكاء طفل في الخامسة من العمر.
- طلّقني أن حياتي معكَ جحيم لا يُطاق…
كلماتٌ تنطقها امرأة في عقدها الثالث
- مهلاً مهلاً، اهدئي قليلاً، لِمَ كل هذا الصراخ والإنفعال؟
الزوج محاولا تهدئتها..
- سئمت العيش معكَ، وتحكّمك بي.. لا تخرجي ولا تسهري، هل أنا جارية لديكَ؟ حتى صديقتاي المخلصات “منى” و”حنان” ترفض أن أرافقهنّ، بالله عليك من تظنّ نفسكَ؟
فقال محاولاً امتصاص غضبها
- إن صديقتيكِ أنانيتّان افهمي حبيبتي، فهن يردن تدمير منزلكِ.
- منزلي، وأين هو المنزل؟ أتظن هذا المكان الضيّق العتيق منزلاً؟
أطرق رأسه وفاضت عيناه بالدموع
- استغفر الله، أرجوك يا حبيبة عمري وصباي، تريّثي قبل اتخاذكِ هذا القرار المصيري، ألم تفكّري قليلا ًفي طفلنا “أحمد”؟ أم لا يهمّك سوى مصلحتكِ وصديقاتكِ؟
- سأسكن مع والدتي وأخي، إنّ منزلنا فخم، وهم يكنّون لي كلّ الحبّ والاحترام، المهم أن تطلّقني وتتركني بسلامٍ، لن أتراجع عن قرار الطلاق.
- سأطلّقكِ على الرغم من حبّي لكِ، فأنا رجل لديَّ كرامة، أتمنّى أن لا تأتيني يوماً نادمة، وسيكون بعد فوات الأوان.
قالت بصوتٍ مضطربٍ من شِدّة الفرح
- حسناً، لن آتي إليكِ.. أعدكَ.
الحمد لله أني سأنال حرّيتي وأخرج من هذا الكابوس المخيف، سأسهر وأخرج مع صديقاتي بلا قيود (مُحدّثة نفسها) .
تمَّ الطلاق في هدوءٍ، ولم تمضِ سوى أيّام حتى شاع خبر الطلاق بين الأهل والأصدقاء، وبعد مضي شهران على الطلاق.
استعدت نشاطي ورتّبت حياتي بلا مسؤوليات غبيّة، وفي أحد الأيام زارتني صديقتي “هبة” لتخبرني بموعد زفافها يوم غد الخميس وضرورة حضوري، فرحتُ بالدعوة للخروج من المللِ والوحدة، وسألتها عن صديقاتي “منى” و”حنان” ولماذا لم يتصلن بي كما كُنّا قبل الطلاق، فأخبرتني أنهنّ مشغولات بأطفالهنّ وحياتهنّ.
ذهبت إلى الحفلة، كانت رائعة حيث الأضواء الملوّنة والترتيب والإتكيت، وهنا رأيت صديقتي “حنان” ناديتها بكلّ عطف:
- حنان صديقتي المخلصة، كيف حالكِ، ولماذا لم أعد أراكِ؟
- أهلا نادية، إن مشاغلي كثيرة جداً هذه الفترة، عذراً أنا مستعجلة، ثُمّ استأذنت بالإنصراف..
- انتظري يا حنان، وأين كانت مشاغلكِ قبل طلاقي؟ كنّا كالتؤام لا نفترق.
- اعذريني يا نادية أن زوجي يناديني (قالتها بعجلة). وذهبت دون أن تكترث لمشاعري، رأيت صديقتي “منى” الفتاة الهادئة ذات الوجه الشاحب والعينين الواسعتين الحزينتين، دنوت منها بكلّ براءةٍ:
- كيف حالكِ صديقتي منى، لماذا لم أعد أراكِ؟ ردت بكلماتٍ خجولة:
- أهلا عزيزتي، أنا في حياء منك فقد منعني زوجي من الاتصال بكِ وإطاعة الزوج واجبة يا صديقتي. لاحت الدمعة في عينيها، رفعت رأسها إلى الأعلى.
- يا إلهي، ولم يمنعكِ منّي هل ارتكبت أثماً بطلاقي! ردت بحسرة
- آسفة عزيزتي، زوجي اخبرني أن أترككِ كي لا أكون مثلكِ غير قادرة على تحمّل المسؤولية، أو أن أطلق لأسبابٍ تافهة حسب قوله.
- وصديقتي حنان، هل منعها زوجها أيضاً؟
- لا .. أن حنان غيورة، تغار على زوجها منكِ، فأنت امرأة مطلّقة الآن.
هزّت كلماتها القاسية مضجعي، أيّ مجتمع نحيا فيه؟ وأيّة نظرةٍ تحاك ضدَّ المرأة المطلّقة؟ شعرت بالندم يعتريني ولأول مرّة.
بعد انتهاء الحفل، أقلت سيارة وعدت إلى المنزل، وما أن وصلت حتى وجدت أخي خالد بانتظاري، كان عصبي المزاج فبادرني بعصبيّة:
- لماذا كل هذا التأخير؟
- إن الساعة لم تتجاوز العاشرة!
- أنك الآن امرأة مطلّقة، مطلقة ونحن تحكمنا تقاليد ومجتمعنا شرقي لا يرحم.
- أنا حرّة، حرّة.. أنتَ لن تقيّد حريتي. ردّت بعصبيّة:
- أنتِ لست حرّة، أنتِ في منزلي وأنا أخوك الكبير ومسؤول عنكِ، فعندما تتزوّجين تنتهي مسؤوليتي. قالها بعصبية مفرطة والأم وزوجته ينظران بصمت.
- أنا لست في منزلكِ،إنه منزل والدي. ضربها بقوّة:
- اخرسي ؟! ترفعين صوتك على أخوك الكبير، أنت قليلة الأدب.
ضربني على وجهي، أحسست أن شرراً قد تطاير من عيناي، ركضت إلى غرفتي، احتضنت طفلي وبدأت أبكي كثيراً على غلطة عمري، وتفاهتي في طلبي الطلاق من زوجٍ طيّب، كنت عندما أخطأ في حقّه يعاملني بكلّ ودٍّ ولا أنام حتى يصالحني. حدّثت نفسها:
- إلى أين أنتِ ماضية يا نادية؟
- عشت كما أراد أخي والمجتمع، لا أفارق المنزل أبداً وفي صراعٍ دائمٍ مع زوجته بسبب شجار طفلي مع طفلها وسط سكوت وانكسار والدتي وحيرتها بين ابنتها وولدها البِكر الذي تعده سندها في كبرها، كنت كالخادمة، حتى شخصيّتي اضمحلت وسط عتمة المنزل الفخم، وهنا علمت أن جمال المنازل وقيمتها لا يكمن في فخامتها بل فيما تحتويه من دفء المشاعر الإنسانيّة وراحة البال، كانت والدتي تمدّني بالصبر على ما أمرُّ به وتعطيني أملاً بأن الغد أجمل، حتى ماتت أمي بغتة، أحسست بالضياع والغربة والحزن يعتريني وأن صبري قد نفذ تماماً، كان طفلي هو أملي الوحيد وقد تبادرت إلى ذهني فكرة مجنونة بالذهاب إلى زوجي والإعتذار منه، وفعلاً نهضت فجراً وأخذت طفلي وأغراضي البسيطة وذهبت لمنزله العتيق من الخارج، لكنه جميل ودافئ من الداخل، طرقت الباب وكان قلبي ينبض بقوّة من شِدّة الخوف والخجل، يا ترى كيف سيستقبلني بعد مرور عام على طلاقنا؟ وعندما يراني هل سيطردني؟ أم يوبّخني أو لربّما يسامحني، كل شيء جائز في زماننا هذا، لقد تأخّر في فتح الباب، سأذهب قبل أن … وهنا فتح الباب، تفاجئا زوجي عندما رآنا، ضمَّ طفلنا إلى صدره، إنه مسرور لرؤيتنا، يا إلهي أن ابتسامته على وجه المتسامح مازالت كما عهدتها، أطلقت العنان لبصرها ليسرح بعيداً مستعيدا ذكريات تلك الأيام الجميلة.
- أهلا بك يا أم احمد، كيف حالكِ؟
- الحمد لله، أحمد أراد رؤيتك فجئت به. تتكلم في حياء والدموع تنهمر من عيناها الذابلتين
- تفضلي، تعال بابا أحمد فأنا مشتاق لك.
- أنا آسفة يا أياد لقد شعرت بالندم، طفلي وأنا بحاجة لك يا أبا أحمد، اغفر لي إنك زوج مثالي، أعتذرُ على كلّ ما بدر منّي و… . وهنا انطلق صوت من داخل المنزل ( أياد …أياد … من في الباب ) ردّ أياد في حزنٍ مفرط:
- لقد فات الأوان يا نادية، لقد تزوّجت وأصبحت لي حياةً أخرى، هذا اختيارك وكم من مرّة طلبت منكِ التريّث باتخاذ قرارٍ مصيري كالطلاق دون جدوى، أنا أسف يا نادية، يجب أن تتحمّلي نتيجة قراركِ.
أطرقت رأسها، لم تنبس ببنت شفةٍ، أخذت طفلها وتركته واقفاً، ينظر إليها بحزنٍ ولهفة.. بعدما أضاعت كل شيء.
جميلة الخزاعيّ – العراق
اترك تعليقا